هل هناك شبهٌ تاريخي بين ما يجري في غزة من محو واستئصال على أيدي جيش الاحتلال وبين ما حدث لأية مدينة في العالم؟! لا أدري لماذا استعدتُ قصة مدينة تعرضت للمحو فيها بعض الشبه بما يجري في غزة من إبادة، إنها قرية صغيرة بالقياس بمدينة غزة، وهي قرية، غرنيكا الإسبانية الواقعة في منطقة الباسك شمال أسبانيا.
أرغمتني لوحة الفنان العالمي، بابلو بيكاسو، لوحة غرنيكا أن أستعيد ذكرى هذه القرية التي خربتها الحرب الأهلية الإسبانية عام 1937، بسبب النزاع بين الأحزاب الإسبانية المتحاربة، حينما استعان أحد قادة الأحزاب وهو، فرانسيسكو فرانكو المعارض للسلطة الشرعية المتمثلة في الجمهورية الإسبانية أي حكومة الباسك، استعان فرانكو بموسوليني وبهتلر في ألمانيا وطلب منهما قصف قرية غرنيكا معقل خصومه السياسيين، ما دفع هتلر لإرسال أسراب الطائرات إلى هذه القرية الوادعة الحالمة بالمستقبل ذات النشاط التجاري والرياضي والفني! اختار هتلر يوم الدمار يوم الاثنين 26-4-1937 في ساعات الصباح، لأن المدينة تحتفل في هذا اليوم بالتسوق الشعبي وتحتفل بكل أشكال الفنون، أمطرت طائرات هتلر المدينة بالقنابل، محت أبنية المدينة بساكنيها!
مع العلم أن وجه الشبه بين ما حدث لقرية غرنيكا وبين إعدام مدينة غزة شبهٌ ضئيلٌ للغاية، لأن عدد ضحايا الغارات على الغورنيكا كان أقل من ألف ضحية، وليس مائة ألف أو أكثر كما هو في غزة حتى كتابة المقال، كما أن مدة القصف على قرية غرنيكا كانت فقط ثلاث ساعات ولم تكن تسعة شهور، هناك فرقٌ كبير أيضا في نوع القنابل المستخدمة في الدمار، فلم تكن هناك قنابل ذكية وأخرى غبية، وثالثة من اليورانيوم المنضد، ورابعة من القنابل الحارقة السامة تُدمر غزة كل دقيقة!
أشعلت الغارة على قرية غرنيكا الإسبانية الرأي العام العالمي، حدث ذلك بين الحرب العالمية الأولى والثانية، دخلت مجزرة القرية سجلات التاريخ كمجزرة عنصرية، حدث كل ذلك قبل عصر التوثيق الرقمي بالصوت والصورة، أما محو غزة فيتم اليوم وكأن غزة تعيش في العصر الحجري والبرونزي، وليس في عصر التوثيق الرقمي! مع العلم أن غزة ليست مدينة عادية يجرى محوها عن الوجود، بل هي موسوعة تاريخية نضالية، موسوعة تاريخية عالمية يجري استئصالها، تضم في صفحاتها حقبات من تاريخ العالم وشواهد تاريخية عالمية لكل دول العالم، وليس لفلسطين فقط!  
إنَّ سبب تذكّري لغرنيكا لا يرجع لسرد التاريخ في الموسوعات، بل لأنني ظللتُ أسيراً للوحة الفنية التي رسمها الفنان الإسباني المغترب عن وطنه بفعل الحرب الأهلية! هذه اللوحة ظلت تشدني دوماً أن أُعيد تصفحها مرات عديدة، كنت أحاول فك رموزها، والإجابة عن سؤال: لماذا اعتُبرت هذه اللوحة بأنها من أشهر لوحات الرسم في العالم؟!
كنت أكتشف في كل مرة أتصفح فيها اللوحة شيئاً جديداً، وهذا سر العبقريات الفنية والأدبية الخالدة، لأن الفن الصادق يحفز الفكر والعقل ويشحن العواطف ويثير الخيال!
عُرضت اللوحة في باريس عام 1937 طولها ثلاثة أمتار وعرضها ثمانية أمتار تقريباً، وهي رمز لكل المآسي وويلات الحروب، اللوحة معروضة اليوم في متحف صوفيا في مدريد.
استخدم الفنان، بيكاسو ألوانا زيتية قاتمة تعبر عما حدث من دمار، وأزال من الألوان كل اللمعان، اللوحة مملوءة بالثكالى والأطفال الموتى، لأن المجزرة استهدفتهم بالذات، دمج الفنان بيكاسو كل عناصر الحياة، فرسم ثورا وحصانا وعصفورا مع الأطفال والنساء دليلا على الحياة بأسرها، حتى الحصان مطعون ومصاب، أما المرأة تحمل جثة طفلها بين يديها، وهناك امرأة أخرى تشاهد القصف والموت برعب من النافذة وفي يدها مصباحٌ مشتعل، وتحت الحصان جثة جندي ميت في يده المقطوعة سيف مكسور! اللوحة مشحونة بالمآسي والألآم!
هذه اللوحة الفنية الخالدة فيها توسلٌ وغضب، كل شيء فيها عملاق يحترق، وهي تعبير عن الصراع بين إرادة الحياة والتدمير، يظل المصباح مرفوعا رغم الدمار رمزا للحرية التي لا تفنى.
كم كنت أتمنى أن تُخلد فنونُنا الفلسطينية مجازر فلسطين تخليدا فنيا عالميا يتحول من المحفوظات الرقمية سريعة النسيان إلى العواطف الأزلية، ولا يتم ذلك إلا بالفنون، فنون الأدب والفكر والتشكيل والأفلام السينمائية والمسرحيات كما حدث للغرنيكا!  ولا يمكن أن أنسى أن هناك فنانين فلسطينيين بارعين ، رسموا لوحات فنية خالدة، ولكن لوحاتهم حوصرت عالميا ولم تحظَ بالرواج والنشر، ولا أبالغ إذا قلت أن معظم لوحات الفن الفلسطيني الخالدة تعرضتْ للمحو والإزالة من الأعداء، ولكن الأسوأ أنها تعرضت للنسيان من أهلها ممن أهملوها ولم يدمجوها في مقررات الدراسة ويرسخوها في الذاكرة العربية والدولية ضمن الفنون الفلسطينية الخالدة!
ما أكثر المجازر التي جرت على أرضنا منذ ستة وسبعين عاما، بدأت بدير ياسين والطنطورة واللد وإقرت وكفر برعم وكفر قاسم، و القدس والخليل و نابلس وجنين وطولكرم وما تزال مستمرة حتى اليوم لتصل الذروة في (أم المجازر) في غزة، مجزرة جباليا والنصيرات ورفح وخانيونس ومفرق النابلسي وميدان الكويت في غزة، وبخاصة مجازر مستشفيات غزة!!
ما أحوجنا إلى الفنون مخلدات الأحداث وليس فقط سجلات الأرقام والأسماء، فقد انبرى شعراء أسبانيا وفنانوها ومثقفوها لتخليد مجزرة الغرنيكا!
أخيرا، سأظل أتذكر حوارا دار بين الفنان بيكاسو، وأحد الضباط الألمان ممن شاركوا في مجزرة الغرونيكا، سأل هذا الضابطُ  بيكاسو: «هل رسمتَ هذه اللوحة وحدك؟ رد بيكاسو عليه: بل رسمْتَها أنتَ».! 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد