بدا الجندي متفاجئاً، تعتلي وجهه صدمة غريبة، وهو يتحدث عن انتشار صورة المسجد الأقصى ومدينة القدس في بيوت الفلسطينيين في قطاع غزة . يقول، إنه دخل عشرات البيوت في جباليا وخان يونس ورفح ولا يكاد يتذكر أنه دخل بيتاً لم تكن فيه صورة للمسجد الأقصى أو لمدينة القدس. بدا له الأمر غريبا، فالفلسطينيون كما يقول، يتمسكون بالقدس بطريقة غريبة. بالطبع، هو يتحدث في ذكرى احتلال المدينة المقدسة في حزيران الجاري ويحاول أن يصدم الجمهور الإسرائيلي بالفارق الشاسع بين فهمهم لمكانة القدس وبين ما يكنه الفلسطينيون للمدينة من تعلق وحب. ورغم أن المقارنة لا تستقيم لأنها تقارن بين مشاعر مستعمر وبين مشاعر صاحب البلاد إلا أنها تعكس جملة من الحقائق الأساسية. فكيف يمكن مقارنة مشاعر من جاء من بولندا أو من روسيا من أجل أن يجد بيتاً يعيش فيه بسبب الفقر أو الحرب وبين من كانت القدس بيته وقرة عينه واضطرته الحروب لتركها وطلبت منه أن ينساها. لا وجه للمقارنة. كما كيف يمكن مقارنة مشاعر الجندي الذي يذهب لقتل الأطفال لا لشيء إلا لأنهم قرروا أن حياتهم يجب أن تستمر رغم الحرب وبين مشاعر الرجل الذي تجاوز الثمانين وهو يحلم بأن يصلي في المسجد الذي صلى فيه والده وجده وجد جده وكل أجداده. هذه مقارنات لا تستقيم ولا يمكن أن توضح حقيقة مشاعر الفلسطينيين تجاه القدس.
من جهة، فهذه مشاعر ليست بحاجة لتفسير أو تبرير. فالقصة ليست قصة صورة مؤطرة وموضوعة في برواز معلقة على الجدار وليست قصة مكان مقدس مبارك نتبارك به، ونحن نفعل ذلك طبعاً وهو أمر محبب، وليست قصة ديكور منزلي بل قصة فهم حقيقي لطبيعة الصراع وفهم حقيقي وبسيط لعلاقة الفلسطيني بالمكان. هذه العلاقة التي يريد الاحتلال لها أن تنتهي. المفارقة: هل توقع الجندي أن يرى في بيوت الفلسطينيين، صورة مانهاتن مثلاً أو سور الصين العظيم. كل أصحاب الحق لا يرفعون إلا صورة حقهم. 
من المؤكد أن الجندي نسي أن يتحدث عن خارطة فلسطين التي تكاد تكون في منزل كل فلسطيني ليس في قطاع غزة بل أيضاً في الضفة الغربية وكل فلسطين كما في كل مخيمات اللجوء. هذه ليست مجرد أشياء نعلقها على الجدار، هذه دلالات حول كيف نفهم الصراع وكيف نفهم حقنا الذي يراد لنا أن ننساه بالقوة، بالتالي، فخارطة فلسطين ليست مجرد خارطة. مرة، قال أبو عمار، إن حجراً من فلسطين يساوي العالم وما فيه، وهو محق، ففلسطين بالنسبة للفلسطينيين هي كل العالم وهم لا يريدون العالم بل يريدون ما لهم. وبذلك فالخارطة كما صورة المسجد الأقصى كما أسوار المدينة المقدسة كما كنائسها ومساجدها كافة هي جزء من حكاية الحق الفلسطيني. انظروا ماذا يفعل الجيش في غزة، يستهدف المكان من بيوت ومؤسسات ومبانٍ تاريخية وأسواق قديمة ومساجد وكنائس ومسارح ومتاحف ومكتبات عامة ومراكز أرشيف ومراكز ثقافية وجامعات. كل شيء لأنه لا يريد أن يظل شيء يذكرنا بحقنا، الحق الذي لا نريد أن نتذكر سواه. 
ومن المؤكد أيضاً ولأن الجندي يجهل الكثير، لم يلتفت لكثير من عناصر هذه الحكاية وهذا الحق، فهو لم يشاهد ما يعلق الفلسطينيون أيضاً على جدران بيوتهم من مطرزات تحكي قصة ارتباط الفلسطيني بأرضه، وقصة الثوب الفلسطيني الذي عمره من عمر الوجود البشري على هذه البلاد ومن صور المدن الفلسطينية الأخرى. فهو لا يعرف صورة يافا الحقيقية ليراها على الجدار والبحر تحت أخمصيها بلغة شاعر العراق الكبير الجواهري حين زارها في الأربعينيات. هذا الجندي أذهله هذا التمسك الفلسطيني وهذا الفهم الفلسطيني للصراع وكأنه كان بحاجة لأن يفهم ذلك. نفس الصورة تتكرر دائماً، الغرباء يتفاجؤون من فهمنا لطبيعة ما نقاتل من أجله أو بالأحرى ما ندافع عنه، كأنهم لأول مرة يخبروننا. كان يجب أن نكنس مثل الغبار عن عتبات البيوت وقت النكبة لكننا بقينا وصمدنا ولم تصبح يافا إلا يافا ولم تتبخر القدس من وعينا بل ظلت بشوارعها جزءاً من الذاكرة الشخصية لكل فرد فينا، ولم تصير بئر السبع قطعة من حلم بن غوريون. الحكايات تورث والأحلام تورث وتظل وصايا الأموات بعد أن يرحلوا. 
وفيما الحرب في غزة تستمر ويتم تدمير القطاع بمدنه ومخيماته وقراه، فإن الصراع الحقيقي على المكان وعلى حكاية المكان يظل هو الأساس. ما لفت انتباه الجندي الذي أرسلوه ليقتل الأطفال وليهدم البيوت على رؤوس ساكنيها هو أن هذه الصور المعلقة على الجدران هي في الحقيقة موقف الفلسطيني تجاه المكان الذي يعتبر جوهر الصراع وجوهر السردية الوطنية التي يظن الجندي أن تدميره لحياة الفلسطيني سيجعله لا يفكر إلا في النجاة والبقاء. وفيما يظل التفكير في النجاة والبقاء أساسيا في البحث عن الصمود فإن التمسك بأساس الصراع يظل قائماً. فغزة المحاصرة التي يمنع عنها الاحتلال كل شيء ويحاصرها من كل الجهات ويكاد نصف سكانها لا يعرفون معنى أن يكون هناك تيار كهربائي بشكل مستمر، غزة التي لا يعرف ثلاثة أرباع سكانها معنى أن يسافر المرء خارج الحدود، بل لا يعرفون كيف قد يبدو العالم خلف الحدود إلا من خلال الأفلام والمسلسلات، غزة هذه تعرف أن القصة ليست قصة حصار ولا قصة طعام ولا قصة معابر ولا قصة اقتصاد يمكن أن يتطور وحياة يمكن أن تتحسن بل هي قصة بلاد تتم سرقتها ويتم شطبها من ذاكرة الأجيال. لذلك فإن التمسك بهذه السردية وحده من شأنه أن لا يجهض كل محاولات طمس الحق. غزة التي تقف شامخة في وجه كل الحصار والتدمير والحرب والعدوان تظل جزءاً أصيلاً من معركة الفلسطيني من أجل حقوقه.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد