قلنا في المقال السابق، إن الحلف "الغربي" الذي شارك في حرب الإبادة على غزّة، وغطّى على الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في هذه الحرب الهمجية قد بدأ بالتفكّك من حولها، وقلنا، إن الولايات المتحدة الأميركية، وهي الشريك الأوّل في هذه الحرب هي في الطريق إلى "التنصُّل" من تبعاتها التي باتت ثقيلة على الإدارة الأميركية على مسافةٍ لا تزيد على شهور من بدء الانتخابات هناك.
الجديد في هذا الأمر أنّ المسافة الفاصلة بين الموقفين الأميركي والأوروبي ليس لها سوى اتجاه واحد.
أقصد أنّ أميركا لم يعد لديها سوى أن تلحق بالمواقف الأوروبية، لأنّها ليست في وضعٍ يمكّنها من وقف الموقف الأوروبي عند حدود مواقفها كما كان عليه الأمر قبل عدة شهور، عندما كانت المواقف الأوروبية نسخةً كربونيّة عن المواقف الأميركية، وعندما كانت المواقف المشتركة لأميركا ولأوروبا انعكاساً مباشراً للمواقف والسياسات والممارسات الإسرائيلية.
تتساقط شروط وقف إطلاق النار شرطاً بعد آخر، ويزداد الضغط الشديد على الحكومة الإسرائيلية بشأن إدخال المساعدات، وأصبح الدعم "الغربي" لـ"عملية رفح" معدوماً ومشروطاً إلى درجة أنّ قدرة حكومة الإجرام في إسرائيل على الاستثمار في هذه العملية، سواء لتحقيق بعض الأهداف، أو لانتزاع صورة انتصار أو لإطالة أمد الحرب أقلّ بكثير ممّا تخطّط له هذه الحكومة، وأقلّ بما لا يُقاس ممّا يمكن أن يساعدها على البقاء.
إذا قامت إسرائيل باجتياح رفح بمعزلٍ عن كلّ المواقف الدولية التي تعارض وترفض هذا الاجتياح فإنّ من المؤكّد أنّ هذا الحلف الذي شارك وغطّى جرائمها سينهار بالكامل، وقد تصل الأمور في هذه الحالة للجوء إلى قرارٍ من مجلس الأمن حسب البند السابع.
أمّا إذا وافقت على الشروط الأميركية لهذه العملية فإنّ هذه الحكومة ستفقد "هيبتها" التي طالما تبجّحت بها، وسيبدو بنيامين نتنياهو في أسوأ أحواله، وذلك بالنظر إلى كذب كلّ ادّعاءاته حول القرار الإسرائيلي "المستقلّ"، وستذهب كلّ تهديداته السابقة واللاحقة أدراج الرياح.
هذا إضافةً إلى أنّ القبول بالشروط الأميركية، وتحت الإشراف العسكري المباشر للجنرالات الأميركيين سيعني حتماً الذهاب إلى صفقة التبادل، لأنّ استمرار الحرب حسب الآراء الإسرائيلية تكون قد تبخّرت تماماً.
أزمة هذه الحكومة، وأزمة نتنياهو بالذات هي حرق السفن المتواصل. فعندما تقول هذه الحكومة، إنّ عدم الذهاب نحو اجتياح رفح يعني أنّ إسرائيل قد هزمت في هذه الحرب، وعندما يُقال، إنّ وقف إطلاق النار بحدّ ذاته سيعني هزيمة إسرائيل في الحرب إذا لم تكن بالشروط الإسرائيلية، فإنّ القبول بوقف إطلاق النار دون هذه الشروط سيعني أنّ اجتياح رفح لم يعد قابلاً للتأجيل أو التعديل، بما يعني أنّ إسرائيل في طريقها إلى هدم وتدمير التحالف "الغربي" الذي احتمت به حتى الآن، ولم يعد أحد في العالم بقادر من زاوية المصالح المباشرة أن يُدافع عنها.
أي أنّ مفهوم أمن إسرائيل، والدفاع "الغربي" عن هذا الأمن بالذات قد بدأ يتغيّر، وأنّ هذا الأمن باتت تحدّده العوامل الخارجية المتمثلة بهذا الحلف، ولم تعد إسرائيل هي التي تحدّد هذا الأمن.
شخصياً، أرى أنّ باراك أوباما كان على حقّ عندما هرب من الشرق الأوسط، وتوجّه إلى آسيا بعيداً عن صداع هذا الإقليم لأنّه كان قد قرأ جيداً خارطة التوازن الجديد في العالم.
كما أرى بالمقابل أنّ جو بايدن كان على حق عندما عاد إلى الشرق الأوسط بسرعة البرق بعد 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، وذلك بقدر ما يتعلق الأمر بالمصالح الكبرى والاستراتيجية لـ"الغرب" بقيادة أميركا، لأنّ "خسارة" إسرائيل هو بمثابة كارثة، والفرق يكمن في ظروف قرار الأخيرين.
أوباما فهم أنّ إسرائيل ليست بوارد حلّ سياسي يمكن أن يكون مقبولاً من دول الإقليم ومن الفلسطينيين، ولهذا هرب باتجاه أولويات أكبر وأهمّ.
دونالد ترامب حاول فرض رؤيته على الإقليم بأن أدار ظهره بالكامل للشعب الفلسطيني وحقوقه، وجاء بايدن وكرّس من حيث الجوهر كل ما فرضه ترامب، بما في ذلك إدارة الظهر للشعب الفلسطيني، وذهب ووضع كلّ ثقله وراء نظام أوكرانيا لمحاربة روسيا وتقويض دولتها على طريق محاصرة الصين وفرض شروط الهيمنة الأميركية على العالم.
لكنّ روسيا انتصرت في الحرب، وهُزمت أوكرانيا، وقام التحالف الروسي الصيني الجديد بإعادة رسم الخارطة الدولية للتوازن ولم يتبقَّ أمام بايدن سوى "قطع" الطريق على الصين من خلال "الممرّ الهندي" المزعوم، وإقليم الشرق الأوسط هو إقليم محوري في هذا التوجُّه.
"الممرّ الهندي" يحتاج إلى ازدهار واستقرار الشرق الأوسط، وهذا الازدهار والاستقرار لن يكون ممكناً دون تعاون إقليمي تكون إسرائيل جزءاً منه، بل والجزء الأهمّ منه كما رأت وارتأت أميركا، ونام بايدن، وصديقه نتنياهو على وسائد الحرير بأنّ الأمور تسير بهذا الاتجاه، ونام "الغرب" الأوروبي على وسائد أخرى إلى جانب بايدن، وإلى جانب نتنياهو نفسه إلى أن توهّمت دولة الاحتلال تحت قيادة "اليمين" الجديد فيها أنّ هذه هي الفرصة "التاريخية" لحسم الصراع، وتصفية القضية الوطنية للشعب الفلسطيني، وبدأت هذه العملية "التاريخية" الجديدة بحسم الصراع انطلاقاً من الداخل الإسرائيلي لكي يُصار حسب رؤية هذا "اليمين" إلى عقد مواءمة جديدة بين حسم الصراع في الداخل الإسرائيلي وحسمه عن طريق تحويل حقوق الشعب الفلسطيني إلى حقوق اقتصادية ومعيشية وليست وطنية، وعن طريق وضع الشعب الفلسطيني كلّه أمام خيارات الموت أو الترحيل أو القبول بهذه "الحقوق" وفق التصوُّر الإسرائيلي المقبول أميركياً.
وإذا عُدنا إلى مقاربات نفتالي بينيت، ودقّقنا الآن بأقوال نتنياهو وإيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش فإنّنا من دون عناء خاص نستطيع إعادة قراءة الأحداث بأقرب ما يكون للواقع.
أقصد أنّ الركيزة الإسرائيلية لنظام إعادة الهيمنة الأميركية "الغربية" بعد هزيمة "الغرب" في أوكرانيا كانت أكثر حيوية ممّا كانت عليه حتى في ظلّ احتدام الصراع خلال "الحرب الباردة".
وكان يستحيل على "الغرب" تحقيق أهدافه في الإقليم الذي زادت أهمّيته، خصوصاً بعد هزيمته في أوكرانيا من دون "التطبيع"، وكان يمكن فعلاً أن يتمّ إخضاع الشعب الفلسطيني، أو التفكير ببعض جوائز الترضية التي تكرّس الرؤى الأميركية و"الغربية" مؤقّتاً لولا أنّ إسرائيل قطعت على هذه الرؤى كلّ الطرق، ولولا أنّها سارعت إلى "حسم" الصراع تحت أوهام الفاشية الجديدة.
كل من كان يراقب سير الأحداث آنذاك كان يعرف أنّ شيئاً ما سيحدث، وأنّ من المستحيل أن يقبل الشعب الفلسطيني بهذه الرؤى الأميركية و"الغربية"، وقبلها الإسرائيلية.
في هذا السياق فقط، يجب أن تتمّ قراءة 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، حتى ولو أنّ حركة حماس كانت لديها أسباب أخرى لشنّ هجومها آنذاك، بما في ذلك الأسباب التي تتعلّق بمصالحها الخاصة أو الضيقة.
"اليمين" الجديد، ومن خلفه كامل المنظومة السياسية الصهيونية والتي لم تعترض على "حسم" الصراع خدع الجميع، وأوقعهم في الشَرَك الذي نصبه لهم، وأوقع "الغرب" كلّه في شَرَكه عندما استعدّ لأن يكون "حاميَ" مصالح هذا "الغرب" شريطة موافقته على خطة إسرائيل لحسم الصراع، وهذا هو بالضبط ما تمّ داخلياً وخارجياً بالنسبة لمسألة الأمن الإسرائيلي قبل "طوفان الأقصى".
كانت الحرب المدمّرة التي قام بها هذا "اليمين" على قطاع غزّة بمثابة إعادة رسم وتكريس هذا "الأمن" الإسرائيلي، لكنّ شدّة مقاومة الحرب الهمجية الإسرائيلية زعزعت هذه النظرية كلّها، بل وأطاحت بها وأسقطتها، وفي هذا السياق فقط، يجب أن نفهم ما تمّ من صمود، وما تمّت من مواجهة مهما كان حجم التضحيات، ومهما كان لدينا من انتقادات تتعلّق بالثمن الذي دفعناه حتى الآن.
الورقة الوحيدة التي باتت في يد دولة الاحتلال هي ورقة الحرب الشاملة، والاستمرار والإمعان في قتل المدنيين الفلسطينيين، وهي ورقة انتحارية على كلّ حال، لأنّ الحرب مغامرة خطيرة والاستمرار بقتل المدنيين أصبح مكلفاً للغاية على الحلف "الغربي" قبل غيره.
وإذا غامر "الغرب" بحربٍ إقليمية في إقليم على المستوى الراهن لمصالحه فيه بعد هزيمة "الغرب" في الحرب العسكرية، وفي المبارزة الاقتصادية، وهزيمته المدوّية في الحروب الأخلاقية والثقافية فإنّ سقوطه، أي سقوط هذا "الغرب" لن يكون سريعاً فقط، وإنّما كارثياً من زاوية خطره على البشرية كلّها.
واضح أنّ إسرائيل هي رأس الحربة في هذا الخطر على الإقليم، وعلى العالم، وعلى "الغرب" نفسه من زوايا متعدّدة.
من سوء حظّ "الغرب" فعلاً أن تكون الورقة التي ما زالت بيد إسرائيل هي الورقة الأخطر عليه بالذات إن لم يسارع إلى انتزاعها بسرعة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية