لا يزال بنيامين نتنياهو ومعه زمرته في المستويين السياسي والعسكري، يصرّون على تحقيق نصرٍ مطلق على الشعب الفلسطيني ومقاومته في غزّة، بالرغم من أنّهم جميعاً يدركون حقيقة استحالة تحقيق مثل هذا النصر.
الداعمون لإسرائيل في حربها على الشعب الفلسطيني، وعلى رأسهم الإدارة الأميركية فقدوا الثقة منذ بعض الوقت بإمكانية تحقيق مثل هذا النصر، وهم يعكفون على كيفية إنقاذ إسرائيل من فشلها وهزيمتها حتى لا تغرق السفينة بمن عليها.
تتبدّل الكلمات، ويتبدّل الخطاب الأميركي "الغربي"، لكنهم يواصلون تقديم الدعم لأداتهم الشرق أوسطية التي تترنّح.
أشياء كثيرة وجوهرية تبدّلت بين ما قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل عما بعده.
فلقد اهتزّت ثقة الاستعمار "الغربي" بقدرة إسرائيل على تحقيق الوظيفة التي أُنشئت من أجلها. خسر جيش الاحتلال هيبته، وانهارت قدرته على الردع، وتفوّقت الأسلحة محلّية الصنع على أفضل ما أنتجته الصناعة "الغربية" والإسرائيلية.
ومع انهيار قدرة إسرائيل على الردع وتحقيق الأهداف الاستعمارية في زمنٍ متغيّر في غير صالح النظام العالمي أحادي القطب تنهار منظومة القيم الاستعمارية، وتسقط سرديتها وخطابها الذي تغطّت به لشنّ الكثير من الحروب على شعوب العالم لنهب ثرواتها والسيطرة على مقدّراتها.
صرخ العالم كثيراً، لفضح ازدواجية المعايير التي تتبنّاها الولايات المتحدة وحلفاؤها، خصوصاً خلال الحرب في أوكرانيا، لكن الرواية "الغربية" ظلّت صامدة إلى أن أطاحت بها المقاومة الفلسطينية، ومسحت بها شوارع وأزقّة مدن "الغرب" كلّه.
يتسابق المسؤولون في دول "الغرب"، وحتى في الدول العربية والإسلامية وكثير من المسؤولين الأمميين، في اختيار الكلمات للتعبير عن القلق والتحذير ممّا ينتظر الفلسطينيين في رفح، من مجازر في حال انتقلت الحرب إلى المدينة المكتظّة بالسكان والنازحين، لكن أحداً من هؤلاء لا يبادر إلى اتخاذ خطوة عملية يمكن أن تؤثّر على قرار "مجلس الحرب".
قلوب هؤلاء وعقولهم، ومصادر استخباراتهم، لا تهتمّ كثيراً وأساساً بحياة مئات آلاف الفلسطينيين الذين ينتظرون آلة القتل والتعذيب الإسرائيلية، فهم يهتمّون أكثر بمصالحهم التي تتعرض للخطر، ويهتمّون أكثر بمدى تأثير ذلك على إسرائيل.
يبحث نتنياهو عن خطة يتم بموجبها إخلاء السكان، عبر فتح "ممرّات آمنة"، إلى مناطق غير آمنة، في محاولة لاعتقال آلاف الشباب بشبهة العلاقة مع " حماس " ثم يعتقد أن القضاء على المقاومة في رفح سيكون أقلّ تكلفة، وكلّ ذلك ينبغي أن يتم قبل رمضان المبارك الشهر المقبل حسب توقّعات نتنياهو.
يصرّ نتنياهو على الاستعجال بنقل المعركة إلى رفح، رغم أنّ رئيس هيئة أركانه هيرتسي هليفي يعترف بأنّ استكمال مهمّة الجيش في خان يونس تحتاج إلى أسابيع.
يتجاهل الاثنان، نتنياهو وهليفي، بأن جيشهما لم يتمكن حتى اليوم من السيطرة على مدينة غزة وشمالها، رغم الدمار الهائل الذي حلّ بالمنطقة، ومرور ثلاثة أشهر على بدء الحرب البرّية.
القتال لا يزال ضارباً في غزة وشمالها، ولا يزال جيش الاحتلال يتكبّد المزيد والكثير من الخسائر، ما يرغم قيادته على سحب واستبدال الفرق العاملة، وإعادة تجميع القوات في مناطق محدّدة، تجنّباً لضربات المقاومة، التي تكون حصيلتها أكبر، في ظلّ الانتشار الواسع للجيش وآلياته.
المقاومة لا تزال قوية وفاعلة في شمال القطاع، وفي مدينة غزة، ووسطها وفي خان يونس، ما يضرب ادّعاءات الجيش والإعلام الإسرائيلي الذي يقع في تناقضات واضحة، بين الإعلان عن السيطرة، والعودة للإعلان عن استمرار وقوة المقاومة.
قبل أيّام قليلة كانت المصادر الإسرائيلية تتحدّث عن أن 70 إلى 80% من الأنفاق لا تزال فاعلة، وأنّ المقاومة لا تزال قوية، ولا تبدي أي إشارة على ضعفها، وإمكانية استسلامها.
وتفضح عملية استمرار إطلاق الصواريخ من غزة وشمالها على "غلاف غزة" حتى "تل أبيب"، مزاعم الجيش الإسرائيلي وادعاءاته بتحقيق إنجازات مهمّة.
والسؤال: هل ستنتهي الحرب، بعد أن ينقل نتنياهو قواته إلى رفح، وهل سيسعفه ذلك في رسم صورة انتصاره المحقّق؟ برأينا أنّ نتنياهو لن يوقف الحرب مهما كانت نتائجها ومحصّلتها في رفح، حيث سيتكرّر المشهد الذي وقع في غزة وخان يونس، فهو سينتصر على المدنيين، وعلى البيوت، والبنية التحتية، وسيُمعن في تجويع وتعطيش الناس أكثر، لكنه لن ينجح في سحق المقاومة فهكذا فعل وهكذا ما سيفعل.
كان من المرتقب أن يرفض نتنياهو الموافقة على الصفقة التي جرى تصميم إطارها العام في باريس، حتى لو أنّ المقاومة وافقت عليها كما هي، فهو مهووس بالحرب وربما لا يزال يسعى لتوسيعها، وتوريط حلفائه في حرب لا يريدونها.
أعتقد أنّ نتنياهو لم يعد يهتمّ إذا اندلعت حرب عالمية وليس فقط إقليمية ذلك أنّ الحرب هي شريان حياته، بالإضافة إلى أنّه يعرف مصير إسرائيل في حال توقفت الحرب لأي سببٍ كان.
ولا يبدي نتنياهو أيّ حساسية أو أدنى اهتمام، بالتغيّرات الهائلة على صعيد الرأي العام العالمي، وعلى صعيد علاقات إسرائيل ومكانتها وسمعتها الدولية حتى مع حلفائها التاريخيّين، والاستراتيجيّين.
ولا يبدي نتنياهو، كذلك أيّ حساسية أو أدنى اهتمام بمواقف وقرارات المؤسّسات الأممية، بما في ذلك محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية، ومؤسسات حقوق الإنسان، ويبدو أنّه لا يزال يراهن على دعم الولايات المتحدة له، للإفلات من العقاب.
مؤسفٌ أنّ الأنظمة العربية الرسمية، وكذلك الإسلامية، لا تزال تتحرّك في مواقفها بين الكلمات، من دون أن تحرّك ساكناً، بينما هي تملك الكثير من أوراق القوّة التي تمكنها من إرغام إسرائيل على وقف حربها الإجرامية.
لا تكتفي الأنظمة العربية بالتزام صمت العمل، وإنّما من المخجل أكثر أنّها تمنع الجماهير من الخروج إلى الشوارع، ما يعني أنّها تخشى خروج الناس، في حين يخرج مئات الآلاف من دون كلل أو ملل، في عواصم "الغرب" الرأسمالي بما في ذلك الولايات المتحدة.
يلفت النظر في هذا المقام، المبادرة التي يشتغل عليها نشطاء فلسطينيون في رفح لحشد الجماهير الفلسطينية على "محور فيلادلفيا"، متحدّين بذلك آلة القتل الإسرائيلية ولمنعها من تحقيق أهدافها.
مبادرة تستحق التقدير والاحترام، وتنطوي على مشاعر متناقضة، إذ لا يحكّ جلدك إلّا ظفرك، وليس فقط مثل ظفرك، ولكنها تنطوي على مشاعر الغضب من الخذلان العربي والدولي.
هذه المبادرة تشكّل رسالةً قويّة، للصامتين، والشامتين، والمنتظرين، وتعيد بشكل أو بآخر صياغة العلاقة بين الوطني والقومي، وتعطي رسالة بأنّ الشعب الفلسطيني يحتضن المقاومة ويدعمها، ومستعدّ للتضحية في سبيل تحرير الأرض وتحقيق الانتظار.
نتنياهو اختار أن تكون هذه الحرب، حرب إبادة جماعية، لاستدامة وجود إسرائيل، واستمرار وظيفتها، ولذلك فإنّه يعتقد أنّ أمن الإسرائيليين لا يمكن تحقيقه إلّا بإبادة الشعب الفلسطيني وتشريده، رغم أنّ الكون كلّه لا يرى أمناً واستقراراً لإسرائيل إلّا بتحقيق حقوق الشعب الفلسطيني.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد