يا إلهي كيف ينقلب العالم في لمحة بصر ؟ هكذا بلا مقدمات يتساقط الحلم أشلاء تحت الركام، كنت تعتقد أنه يسير بهدوء وللسقوط مقدمات، ولم يكن الحلم الذي تواضع في الزمن الأصفر أكثر من بقاء الأحبة الذين اعتدت على أصواتهم وابتساماتهم ووجبة طعام برفقتهم، وكيف يختفون بلا أمل العودة ؟ هكذا كتب القدر كلمته القاسية وهو يمزق قلوبنا بلا رحمة.


هل ينكتب الوجع ؟ بالقطع لا فالوجع أصعب من أن ينسكب على الأوراق الصماء لأن له لوناً وطعماً ورائحة شديدة المرار، وله عواطف ومجسات قياس خاصة تبدأ من القلب ولا تنتهي إلا بسكتته، وليته يسكت حين يبلغ ذروته ... تلك أمنية حين تقلب الحياة دفترها ويصاب القلب بالانكسار.


جهنم التي انفتحت على أهل غزة بلا حسابات ستترك من المآسي ما يكفي للأحفاد كما النكبة التي هي وأخواتها أصبحن رفيقات شعبنا بلا تراجع.


فالعواطف اندلقت كما الدم، والقلوب تحطمت كما البيوت، والعقول تاهت كما رحلة الهجرة نحو الجنوب وهي تسأل ما الذي يحدث. وفي ذروة السؤال تظل كل تلك تنزف بلا توقف.


كيف للوجع أن يعبر عن نفسه بلا صراخ دون حركة ؟ لا يمكن ... كيف يمكن أن أصف انتزاع جزء من القلب بلا رجعة واندفن من الأحبة: أصدقائي، والد زوجتي ووالدتها وإخوتها جميعاً ونسائهم وأبنائهم وبناتهم وأخواتها وأبنائهن وبناتهن وأزواج بناتهن وأطفالهن كل شيء انتهى، وجدت نفسها بلا أحد وحيدة في هذا العالم تعيش على الألم، وأعيش معها على ذكرياتهم نضع انكسارنا ونفشل في ترميم حياة فتحت صفحتها الأكثر سواداً.


مطلع التسعينيات خرجت من السجن وقمت بأول زيارة لذلك البيت المعروف بفائض وطنيته لتنسيق شيء ما مع مسؤولة اتحاد المرأة آية أخت زوجتي، كان لها أختان قد تمت مطاردتهما «لبنى وسهير» من قبل جيش إسرائيل لتغادرا غزة هروباً عن طريق البحر بعد أن سجنت لبنى في سجن النساء في الرملة قبل أن تخرج وتواصل كفاحها وتصبح مطلوبة وتغادر هرباً.


أما الوالدة زينب فكانت تقوم بإدارة كل عمليات العمل الوطني من تخبئة المنشورات ونقلها وعلب الكتابة على الجدران وأعلام فلسطين، وميدانياً لم تكن تسمح للجيش الإسرائيلي باعتقال أي من الشباب دون أن ت فتح معركة تخليصه ولا تتنازل دون أن تعود منتصرة، فالبيت كان واحداً من أهم مقرات العمل والاجتماعات المكثفة والتخطيط والتخزين والتوزيع، وفي هذا المناخ كبرت زوجتي التي كانت تخرج باكراً قبل مدرستها بساعة وتضع الكوفية على وجهها وتكتب تعليمات الانتفاضة الأولى على الجدران في طريقها.


تلك كانت ميزتها الأكبر والآن على أصعب محطات العمر تجد نفسها وحيدة من كل هؤلاء بلا أب أو أخ أو ابن أخ يكون امتداداً لأهلها الذين تركوا في قلبي كل هذا الدفء الصارخ.


للحظة أشعر بوطأة الندم فأنا الذي يحسب كل شيء بميزان بائع الذهب وأعرف كيف سيكون الرد المجنون من دولة فقدت ثقتها بنفسها وفقدت عقلها وتعرت من هيبتها وتملك كل هذه القوة والغطاء، فعندما يصاب المسلح بالجنون كان يجب الحذر، كيف لم أصر على توزيعهم على أكثر من بيت في هذه المطاردة رغم أن لا أحد منهم ينتمي أو يؤيد حركة حماس لكنني أعرف أن صراع إسرائيل مع غزة جميعها مع كل الناس وليس مع حماس، وأن الجميع مطلوب للإبادة والحرق.


والد زوجتي كان أجمل شباب مخيم الشاطئ في ستينيات القرن الماضي ـ هكذا قال لي من أحببنه من النساء وتمنينه زوجاً، وهو صاحب محل في المخيم كان مكاناً لمجموعات جيفارا غزة في سبعينيات القرن الماضي قبل أن يسلم الراية لبناته، فالأبناء في الانتفاضة الأولى لم يكونوا قد كبروا بعد محمود الذي سمي على اسم جده لأمه محمود الغول كان شاباً ذا شخصية قيادية حادة وشديد الذكاء واللمعان يعمل في وزارة الشؤون المدنية التي تقوم بدور التنسيق مع إسرائيل وزوجته ذات اللكنة المصرية سالي التي أسست أسرة حالمة وأبناؤهم زين ولبنى وكنان وساري ابن الأشهر الستة ماتوا جميعاً.


محمد وأبناؤه عز وعدنان وليان وآدم أكبرهم أربعة عشر عاماً هكذا غادروا مع أبيهم، وأخيهم الثالث صاحب النكتة التلقائية يوسف وأختهم نسرين وأبنائها حسام وعصام وأبنائهم وأختهم جيهان وزوجها وأبنائها ليصيبوا باليتم والفجيعة من تبقى من أخواتهم اللواتي شاء قدرهن أن يتزوجن بعيداً، فالعائلة من مخيم الشاطئ غادرت الشمال نحو مخيم النصيرات إلى بيت الدكتور عبد اللطيف الحاج زوج ابنتهم آية المديرة في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين، فالبيت فيللا كبيرة تتسع للجميع وسيارة الوكالة الخاصة بآية تتيح مجالاً للتسوق بأمان.


هكذا كانت الحسابات دون أن يدركوا أن الموت سبقهم هناك وتجهز لإبادتهم وأن إسرائيل التي أصيبت بالجنون لن ترحم أحداً ...كان محمود يطمئنهم ساخراً باعتباره يتقن اللغة العبرية بحرفية ويستمع للإذاعة العبرية بأن لا أحد منهم حماس وبالتالي لا خوف عليهم دون أن يدرك أن المطلوب رأس الفلسطيني أي كان.


هكذا هي الحياة تنزع قلب القلب في لحظة ساخرة وتتركنا نمضغ الوجع بعيون دامعة وقلوب منكسرة وحياة لم يعد لها لون ولا طعم ولا رائحة، فقد تداخلت الألوان وتشابهت الروائح وفقدت طعمها ... سلام لكل من فقدنا .... وعار على تلك الدولة ومعها عالم فقد أخلاقه وسكت عن مقتل الأطفال .. لبنى ولينان وكنان وساري وعدنان وووو..... سنكتب على أطراف الوجع إذا تبقى للقلب المحشو بالألم بقية.
 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد