بات يصعب على أي مراقب تقييم الحالة النفسية ل بنيامين نتنياهو وخصوصاً في وقفته الأخيرة في الأمم المتحدة وما استعرضه من خريطة كأن الرجل بات منفصلاً عن الواقع وأكثر، لا بد أن هناك مستجدات طرأت على وضعه العقلي وهذا يحدث للإنسان عندما يتعرض لسيل من الضغوط فيفقد توازنه.

يتعرض رئيس وزراء إسرائيل لضغوط تنهال عليه من كل اتجاه، من التظاهرات التي صاحبته لحظة ولادة حكومته الحالية، ومن دولة يقودها لكنها لا تقف خلفه كما يعرف الجميع، من شركائه الذين يساندونه ولكنهم يأكلون لحمه ويستبيحون حياته السياسية ويخنقونه من عنقه، من البيت الأبيض الذي جعله ينتظر باحتقار تسعة أشهر من أجل لقاء، من الصحافيين الذين ينكلون به ليل نهار، وفوق كل ذلك من دولة بات يشعر بتآكل حضورها وتلاشي تأثيرها، كل هذا يفعل فعله في الحفاظ على التوازن، لأن تلك القضايا تحتاج إلى رجل من حديد كي يحافظ على استقراره النفسي، لكنه ليس كذلك.

أتابع رحلة بنيامين نتنياهو السياسية منذ أن فاز بانتخابات الليكود العام 92 متجاوزاً جيل المؤسسين ولم يكن قد تجاوز حينها 42 عاماً، ثم فاز برئاسة وزراء اسرائيل كأصغر من شغل هذا المنصب فيها، وقرأت ما كَتَب.

وبالعودة لتاريخه فهو منذ طفولته كان ولداً جاداً، فبينما كان أخواه يوناتان وعيدو يلعبان في الحي كان هو يستغل غياب والده ليجلس على طاولته ويقرأ في مكتبته، مدرسوه تحدثوا عن شخصية رصينة وجدية، وفي شبابه لم تأخذه اهتمامات الشباب في السهر والفتيات بل القراءة وحين ذهب للتجنيد وهيئة الأركان أيضاً تحدث أصدقاؤه بنفس المنطق كيف كان مثقفاً ورصيناً وجاداً فأصبح قائداً لوحدته بسرعة قياسية.

ذات مرة كنت أستمع لأحد خطاباته في إحدى الجولات الانتخابية لمدة ساعة، لم أستمع في تاريخ إسرائيل لرجل مفوه بهذا الشكل، ذكي، يتلاعب بالألفاظ، يطوع اللغة، ماكر جداً يعرف عن أشياء شتى ورفيع الثقافة، وبالتالي يمكن لأي منا أن يعرف ببساطة كيف وصل رغم صغر سنه ولماذا كان أطول رؤساء وزراء إسرائيل صموداً في هذا المنصب ...يمتلك كفاءة اللعبة، يحترف السياسة بكل مؤهلاتها، وأولها الكذب وتلك كانت توصية فريدناند أخطر ملوك أوروبا كما نقل عنه ميكافيللي في كتاب سيرته «الأمير».

لا يتوقف أفيغدور ليبرمان عن تذكير العالم «بالكاذب الكبير» أما شريكه الحميم بتسلئيل سموتريتش فقد سرب في تسجيل صوتي له يقول فيه: «نتنياهو كذاب ابن كذاب».

خلال سنوات حكمه كان يكذب بذكاء شديد وبحرفية عالية لدرجة لا يمكن كشفها، كان يخلطها بالواقع، لكن خطابه الأخير في الأمم المتحدة يكشف عن شخصية شديدة الانفصال عن هذا الواقع الذي يتغير فيه العالم، وتتغير فيه مكانة إسرائيل وعن الإقليم الذي يتحول وعن العلاقات الدولية التي تشهد هذا القدر من الفوضى يكبر نتنياهو ويكبر معه الكذب ليصبح عصياً على التصديق دون أن يلاحظ، هذا يحدث مع من يعمرون في السلطة حيث تتضخم أمراضهم.

ولشدة انفصاله عرض خريطة تشمل أيضاً قطاع غزة وهي المنطقة المنبوذة قومياً وتوراتياً والتي خرجت إسرائيل منها بعد ندم أكثر من ثلث قرن على احتلالها.

فقد نسي الرجل ما يريد المهم أن يلون الخريطة حسب الألوان التي يحلم بها وقد قرر في الخريطة أن الدول العربية تأتي للتطبيع وأن إسرائيل «الفيلا «أصبحت جزءا من «الغابة» الخضراء وأن طريقاً سيمتد من الهند لينتهي في حيفا، هكذا كل شيء بقرار من رأسه، هكذا هي الأشياء وعلى العالم أن يأتمر بأمره، على السعودية أن تأتي للحظيرة طائعة بلا نقاش أو شروط وعلى الفلسطينيين أن يجلسوا كالتلاميذ المؤدبين ولا يعترضوا على ذبح مستقبلهم وتبددهم، وعلى الرئيس الأميركي أن ينفذ البرنامج المرسوم دون أن يعترض ...ما هذا ؟.

لننحِ الفلسطينيين جانباً فما تطلبه السعودية من اتفاقيات أمنية ومفاعل نووي لا يمر إلا عبر مجلس الشيوخ، وتعترضه عقبات ترجح عدم قدرة أي رئيس أميركي على تمريره فإذا أراد أن يكسب من أصوات الجمهوريين سيخسر الأغلبية الديمقراطية بيسارها الذي لا يمرر الاتفاق في ظل تعنت نتنياهو مع الفلسطينيين، وإذا أبدى أي مرونة تجاه الفلسطينيين سيخسر حكومته ويسقط، يتجاهل نتنياهو العارف بامتياز في السياسة الأميركية كل ذلك.

يتجاهل نتنياهو أن أربعة فقراء من مخيم خان يونس يمكن لهم أن يفتحوا حرباً تجر إسرائيل لأسابيع تهدد بوقف خط التجارة الحالم، وهذا لا يحتمله الاقتصاد العالمي فأينما ولّى وجهه سيجد الفلسطيني متربعاً أمامه بكل هدوء.

التاريخ ينتظر بابتسامته الساخرة التي كانت تسخر من حركاته البهلوانية في الأمم المتحدة، فقد قال التاريخ في هذه المنطقة كلمته إن لا شيء ينجح دون الفلسطينيين.

فمنذ فترة قصيرة فقط قال كلاماً أكثر عن اتفاقياته الإبراهيمية والتي كانت موازنات دعايتها أكبر من إنجازاتها التي تتضاءل لدرجة إحراج الشركاء فيها، هو يعرف ذلك ويحاول منذ أول رئاسة للحكومة قبل أكثر من ربع قرن، لكن فريدناند كان يعيب على السياسيين الذين لا يكذبون ...! نتنياهو تلميذ نجيب.

من يراقب يدرك أن هذا الانفصال يحدث للسياسيين حين تقترب أعمارهم السياسية من النهاية، وتلك ليست بشرى لخصوم إسرائيل لأنهم يريدون نتنياهو أكثر، ليستمر هذا الخلل الذي يفصل فيه إسرائيل عن العالم ويفرمل كل مشاريع دمجها بل يقلص علاقاتها القديمة أكثر نحو مزيد من العزلة مستمراً في هذا الهذيان أو في حملة التضليل والعلاقات العامة بلا إنجازات.

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد