يصادف اليوم مرور ثلاثين عاماً على توقيع اتفاق "أوسلو" في حديقة البيت الأبيض في واشنطن. وهو اتفاق إعلان المبادئ بين منظمة التحرير وبين إسرائيل تلته اتفاقيات تكميلية منها اتفاقية "طابا" وبروتوكول "باريس" الاقتصادي، واتفاق "واي ريفر" واتفاق "شرم الشيخ". وأهم ما تضمنته اتفاقيات "أوسلو" المتتابعة هو وجود فترة انتقالية مدتها خمس سنوات تنتهي بالتوصل إلى حل دائم للصراع بناء على قرارات مجلس الأمن وبما يفضي إلى حل الدولتين. وخلال هذه السنوات تنقل إسرائيل السيطرة على غالبية المناطق المحتلة بما فيها المنطقة المصنفة (ج) باستثناء المواقع العسكرية المحددة بالاتفاقيات والمستوطنات بحدودها القائمة في ذلك الوقت، إلى السلطة الفلسطينية التي قامت بموجب الاتفاقيات وحددت صلاحياتها ومسؤولياتها في هذا الإطار.
وبعد ثلاثين عاماً على الاتفاق لم تنفذ إسرائيل أهم بنوده وهو الانسحاب من مناطق (ج)، ولم تحل الإدارة المدنية وتنهي الحكم العسكري، بل أننا نشهد هذه الأيام تعزيزاً لدور الإدارة المدنية وتحويل هذا الدور من عسكري إلى سياسي في إطار خطة ضم الضفة الغربية التي تتبناها الحكومة الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو وشركائه بتسليئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير. وأُقفل الستار على عملية التسوية بشكل كامل، ليس فقط أنها لم تعد قائمة من وجهة النظر الإسرائيلية والإبقاء على عملية إدارة الصراع دون حل، بل تذهب إسرائيل إلى الحسم أو هكذا تعتقد وتخطط، من خلال القضاء على فكرة قيام دولة فلسطينية مستقلة بتوسيع الاستيطان وضم مناطق (ج) وحتى الضفة الغربية كاملة بإبقائها تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية أي الاحتلال والسيادة الإسرائيلية.
هذا من الجانب الإسرائيلي، أما من جانبنا نحن فلا نزال نتحدث نفس الخطاب السابق ونعلن التزامنا الرسمي بالاتفاقات، ونطالب إسرائيل بالالتزام بها على الرغم من أننا نعلم علم اليقين أن الحكومات الإسرائيلية لم تلتزم وليست مستعدة للالتزام وخصوصاً الحكومة اليمينية العنصرية القائمة الآن. ولكن الوضع الحالي الكارثي الذي نعيشه بسبب تعثر العملية السياسية ووصولها إلى طريق مسدود قد لا نخرج منه في المدى المنظور، لم يكن قدراً ولم يكن فقط بسبب السياسة الاحتلالية والعنصرية المجرمة التي تتبعها إسرائيل والتي لم تنوِ الخروج منها بشكل فعلي بالرغم من كل المحاولات، بل كذلك بفعل أخطاء فلسطينية قاتلة.
أول الأخطاء الفلسطينية كان محاولة إفشال "أوسلو" منذ البداية من قبل قوى الإسلام السياسي، فهي رأت فيه تهديداً لأفكارها وأيديولوجيتها، وفعلت كل ما يمكنها لتحطيم الاتفاق من خلال عمليات عسكرية مكثفة نفذت غالبيتها داخل إسرائيل وضد المدنيين خصوصاً في الفترة ما بين عام 1994 وعام 1996. على الرغم من أن قسماً كبيراً من الرافضين لأوسلو دخلوا في إطاره من خلال المشاركة في انتخابات عام 2006، وحصلوا على مقاعد في البرلمان "المجلس التشريعي" المرتبط بالاتفاقيات وشكلوا حكومة تحت هذا السقف، وهذا الجزء يخص حركة " حماس " على وجه التحديد.
الخطأ الثاني، هو الانتفاضة الثانية واللجوء إلى المقاومة المسلحة بما في ذلك العمليات الانتحارية التي نفذت ضد المدنيين في مختلف أرجاء فلسطين التاريخية والتي أدت إلى مقتل عدد كبير من الإسرائيليين وصل إلى 1100قتيل وأربعة أضعاف هذا الرقم من الفلسطينيين قتلوا على يد قوات الاحتلال. وكانت النتيجة المباشرة للانتفاضة المسلحة وصول اليمين الإسرائيلي للحكم وبناء جدار الفصل العنصري، والفوضى التي أفضت في النهاية إلى انسحاب إسرائيل من قطاع غزة ، وفوز "حماس" بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي ثم الانقلاب الذي نفذته ضد السلطة، وصولاً إلى 17 عاماً من الانقسام المدمر، ووقوع قطاع غزة تحت حصار جائر وشروط لاإنسانية دفعت أكثر من 40 ألف شاب إلى الهجرة في ظروف بائسة عرضت حياة الكثيرين للخطر، ومنهم من مات غرقاً في سبيل التخلص من الوضع المأساوي المستمر في القطاع والظلم المزدوج الذي يعيشه المواطنون.
لقد قضى الانقسام على فكرة الكيان الفلسطيني الموحد الذي أصر عليه الزعيم الراحل ياسر عرفات حتى في تطبيق المرحلة الأولى من اتفاقية " أوسلو"، وتحول الوطن إلى قسمين مختلفين ومنفصلين، وغابت الديمقراطية وسلطة الشعب ورقابته، وتحول واقعنا إلى سلطتين بدون حسيب أو رقيب في ظل حل المجلس التشريعي وعدم إجراء انتخابات عامة وعملية إصلاح للمؤسسة بعد توحيدها. وكأننا نقتل بأيدينا فكرة الدولة الفلسطينية الواحدة المستقلة.
صحيح أن إسرائيل ليست في وارد الذهاب إلى تسوية سياسية، ولكن واقعنا الكارثي وتشرذمنا وفسادنا لا يشجع أحداً في العالم على الانتصار لنا، وأصبحت المطالب بقيام دولة فلسطينية وحتى إنهاء الاحتلال ليست أكثر من ضريبة كلامية. لقد خسرنا ما أنجزناه في"أوسلو" على الرغم من أنه مجزوء وأقل بكثير مما كنا نطمح. ولكن كان لنا مطار ووضعنا الحجر الأساس لميناء بحري، وكان اقتصادنا افضل وحياتنا أفضل. واليوم المشروع الاستيطاني الصهيوني يمضي بتسارع، وهجرة الشباب وتفريغ الوطن مستمران، لم تتبقّ لنا سوى الشعارات الكبيرة الجوفاء، يرددها الجميع وهم يدركون في قرارة أنفسهم كم هو وضعنا بائس.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية