شكلت المؤسسات الأهلية منذ تأسيسها السابق على إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية، واحدة من مقومات دعم وجود الفلسطينيين على أرضهم وتعزيز صمودهم في وجه انتهاكات وسياسات عنصرية إسرائيلية، تستهدف الوجود الفلسطيني برمته، الأمر الذي يزداد وضوحا كل يوم.
وبعد تأسيس السلطة الوطنية تضاعفت الأعباء على كاهل المؤسسات الأهلية وأصبحت تواجه انتهاكات المحتل وتحاول أن تكمل دور الحكومات المحلية في تقديم الخدمات، في مجالات التعليم والرعاية الصحية والزراعة، ورعاية الأشخاص ذوي الإعاقة وتقديم المساعدة القانونية، وغيرها من المجالات، وتواجه في الوقت نفسه أي انحرافات في أداء السلطة وأي تجاوزات أو انتهاكات للقانون.
لا أريد هنا أن أستعرض حجم الضغوط والملاحقة الإسرائيلية للمؤسسات الأهلية، والتي لم تقف عن حد اقتحام مقرات وإغلاق مؤسسات، ومشروع قانون الضريبة على الجمعيات الغوثية والحقوقية التي تبلغ 60٪ من قيمة التمويل ما يعني إنهاء وجود المؤسسات المحلية والدولية بالكامل.
ربما تكون هذه الضغوط مادة لمقال قادم، لكني سأركز هنا على القيود والتحديات التي تفرضها السلطات المحلية وتهدد بتقويض وجود هذه المؤسسات، دون اعتبار للخسارة الكبيرة التي سيُمنى بها الشعب الفلسطيني إن فقد خدمات هذه المؤسسات، وخسارة المجتمع والسلطة والجميع لما تمثله هذه المؤسسات من قوة ناعمة تلعب دوراً مؤثراً يزعج المحتل في المحافل كافة.
في ظل الأزمة المتفاقمة التي تعصف بالفلسطينيين سلطة وأحزاباً ومؤسسات، يبدوا أن هناك من يسعى لتصفية عمل المؤسسات غير الحكومية، على رغم دورها الفعّال في خدمة القضية الوطنية والقضايا المعيشية والمجتمعية، ودائماً ما تُروج إشاعات تسعى لاغتيال هذه المؤسسات معنوياً، عبر كيل تهم لها أو للأفراد العاملين فيها، وهي ادعاءات يدحضها سلوك المحتل الواضح والمنظم في استهدافه المؤسسات بالنظر لدورها، واتهاماته لها مغايرة فهي تشجع "الإرهاب" وتنسق مع المنظمات المسلحة التي تصنفها سلطات الاحتلال والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على أنها كيانات "إرهابية".
وفي هذا السياق أدخلت السلطة تعديلات على القوانين الناظمة لعمل هذه المؤسسات، ووضعت لوائح تنظيمية تُفقدها استقلالها، وتحاول جعلها جزءاً من المؤسسات الرسمية عبر فرض شروط لا تنطبق حتى على المؤسسات الحكومية، مثل نسبة الأجور من إجمالي الموازنة، وشرط موافقة الحكومة المسبقة على التمويل، وتغييب القانون لجهة وزارة الاختصاص.
فالمؤسسات، اليوم، إما تخضع لوزارة الداخلية، وهي ليست وزارة اختصاص للإشراف على عملها بحسب القانون.
وفي حالة المؤسسات المسجلة كشركات غير ربحية فطلب المنحة يجول على معظم الوزارات والمؤسسات الأمنية ولا يعرض طلب الموافقة على مجلس الوزراء قبل أن يستوفي شرط موافقة الوزارات والأجهزة الأمنية، في تقويض تام لجوهر الحق في تشكيل الجمعيات وحرية عملها.
كما أن الانقسام انعكس ضغوطاً كبيرة على المؤسسات الأهلية العاملة. فكل طرف يسعى لاستخدامها في مواجهة الطرف الآخر، عندما يتعلق الأمر بالحقوق والحريات وانتهاكها، وكل يوم هناك قيود جديدة خارجة عن القانون، مثل الحصول على تصريح مسبق قبل تنظيم أي نشاطات في الأماكن المغلقة.
وهناك شروط لا علاقة لها بالقانون، مثل منع الاختلاط ومنع الدبكة والغناء للفتيات، على رغم أن الجانب الثقافي والتراثي واحد من جبهات الصراع مع الاحتلال، الذي يعمل جاهدا للسطو على موروثنا في الغناء واللباس الشعبي والأكلات الشعبية.
إن منع أشكال النشاط هذه إنما يساعد على تقويض جانب مهم من تراثنا وموروثنا الشعبي، في تسهيل مهمة الاحتلال في السطو على موروثنا الثقافي.
والمشكلة أن من صدًّر لنا ثقافة الحرام المطلق في غير ما حرم الله تخلى عنها خلال السنوات الأخيرة. والغريب أن هذه المقاربات والإجراءات تأتي في وقت تتعرض فيه هذه المؤسسات للملاحقة الإسرائيلية، التي نجحت نجاحاً نسبياً في تجفيف مصادر تمويلها، عبر الضغط على مانحيها لوقف تمويلها.
وتتعرض وزارات الخارجية في الدول المانحة إلى المساءلة البرلمانية، بالاستناد إلى تقارير زائفة تُصدرها منظمات أنشأتها سلطات الاحتلال، وتسعى لربط المؤسسات وموظفيها بأحزاب سياسية مصنفة كيانات "إرهابية"، ما دفع كثيراً من المانحين إلى وقف العمل في قطاع غزة أو في الأراضي الفلسطينية عموماً، وبعضهم قلّص نشاطه إلى أدنى حد.
ومنذ سنوات تعاني المؤسسات من عدم القدرة على توفير الأموال اللازمة لضمان استقرار عمله. وانهار عشرات المؤسسات، أو قلّصت حجم موظفيها ونشاطاتها، والبقية على الطريق في حال استمرت هذه العقلية حاكمة.
تثور أسئلة كثيرة، من نوع ما الفائدة التي يرجوها أي طرف وطني فلسطيني من وراء تقويض وجود المنظمات غير الحكومية وعملها على اختلاف تخصصاتها؟
ولماذا تسعى أطراف فلسطينية مختلفة إلى زج المؤسسات في آتون صراع سياسي، اجتماعي، ثقافي على خلاف الأسس الناظمة والحاكمة لعملها، وأهدافها المعلنة، وهي أهداف تركز على تمكين الشعب الفلسطيني من حقه في تقرير مصيره بنفسه وانتزاع حريته وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس ، أسوة بشعوب الأرض، وتسعى إلى تحقيق العدالة ورفع الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني.
أليس دور هذه المؤسسات الوطني هو سبب ملاحقتها من المحتل، سواء تلك التي تستصلح الأراضي المهددة بالاستيطان، أو التي تسعى لملاحقة مجرمي الحرب في المحكمة الجنائية الدولية، أو التي تقدم خدمات ثقافية وتعليمية؟!
هذه دعوة لجميع لوقفة مراجعة لكل السلوك تجاه هذا المؤسسات، التي تُعتبر مكسباً تاريخياً لعموم المظلومين والمهمشين والفقراء من أبناء شعبنا.
هذه المؤسسات شرط بقائها استقلالها وحرية عملها واحترام منطلقات العمل ومرجعياته، فحرروها من المطرقة والسندان قبل فوات الأوان.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية