إذا صحّت الأخبار بأنّ الرئيس الأميركي جو بايدن بات مهتمّاً على نحوٍ خاص بإنجاز اتفاق على «تطبيع» العلاقات بين المملكة العربية السعودية وبين دولة الاحتلال، حتى لو كان هذا الاتفاق «مبدئياً» أو جزئياً - وهي أخبار صحيحة على ما يبدو - فإنّ الولايات المتحدة باتت تدرك أنّ اتّفاقاً كهذا، ليس فقط متعذّراً من دون «إنجاز» جوهري بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وإنّما هو مستحيل في الواقع.
من هذه الزاوية بالذات، فإنّ «العربية السعودية» باتت موضوعياً في وضعٍ تفاوضيّ قويّ للغاية بالمقارنة مع الوضع التفاوضي لكلٍّ من إسرائيل والولايات المتحدة، سواءً كان هذا الوضع ثنائياً، أو من منفرداً بكلّ طرفٍ على حدة.
فمن زاويته، بايدن بات يبحث عن «إنجازٍ» كبير، يعتدّ به قبل الانتخابات الأميركية، وهذا الإنجاز يتعذّر كلياً في ساحة الحرب مع روسيا على الأراضي الأوكرانية، وخصوصاً بعد الفشل الكبير لما سُمّي «الهجوم المضاد»، وبعد أن فقدت القوات الأوكرانية أعداداً هائلة من الخسائر البشرية، وبعد أن تمكّنت القوات الروسية من تدمير كميات كبيرة من أسلحة هذه القوات على الجبهة، وفي الخطوط الخلفية.
كما يتعذّر هذا الإنجاز على جبهة الصراع مع الصين، ولم يعد أمام الرئيس الأميركي سوى «الإصغاء» إلى نصائح «الذئب» المخضرم العائد من بكين، بعد الزيارة «الأخيرة» التي قام بها هنري كيسنجر.
وحتى على مستوى «تماسك» «الغرب»، فإنّ انضمام السويد أو فنلندا إلى «الناتو» لم يغيّر أي شيء جوهري في هذا «التماسك»، لأنّ التصدّع أكبر من أن ترقعه خطوات من هذا القبيل.
إذاً إنّ نظام فولوديمير زيلنسكي يعاني من استشراء الفساد، ومن هروب القوات، ومن القدرة على تعويض الخسائر البشرية، ومن «صراعٍ» خفيّ مع «الأطماع» البولندية، وتعاني فرنسا من أزمات داخلية كبيرة، ومن توالي خساراتها في إفريقيا، وقد تفقد المزيد من سيطرتها على بلدان أُخرى جديدة، وقد يجد «الغرب» نفسه أمام فقدان خطير لتوريد المعادن الإفريقية الحسّاسة إلى أوروبا كلّها.
هذا بالإضافة إلى أنّ زيادة أسعار النفط والغاز باتت تمثّل هاجساً كبيراً لكلّ أوروبا بدءاً من الخريف القادم الذي بات على الأبواب.
وترتعد فرائص الولايات المتحدة كلّها، و»الغرب» كلّه من «العملة» الجديدة التي باتت مطروحةً بقوّة في إطار «البريكس»، ومن انحياز الكثير من الدول لصالح هذا الخيار، إضافةً إلى «الطابور» على دخول هذه البلدان إلى «البريكس» تباعاً.
وهكذا لم يتبقَّ لبايدن لكي «يلحق» نفسه قبل الانتخابات الأميركية سوى الشرق الأوسط، خصوصاً وأنّه - أي بايدن - بات يدرك الأبعاد والمخاطر التي تكمن في تعمّق الأزمة الداخلية في إسرائيل.
أمّا بنيامين نتنياهو فهو يعتبر، وسيعتبر أنّ إنجاز «الاتفاق»، بصرف النظر عن حقيقة محتواه، ومستوى هذا المحتوى، والأبعاد التي ينطوي عليها الآن ومستقبلاً، أيضاً، سيكون بمثابة «ضربة» معلّم في ظلّ الاختناق الذي يمرّ به، ويمرّ به حزب «الليكود»، وتمرّ به دولة الاحتلال بكاملها.
يدرك نتنياهو أنّ «الشروط» السعودية التي باتت معروفة، أو ما بات يُعرف منها تستحيل عليه، ويستحيل على حكومته التوافق عليها، وهو الأمر الذي يعني أنّ خروج أحزاب «المحفل الكهناتي» من الائتلاف الحكومي هو الشرط الأوّل للبدء في أيّ حوار جادّ حول «التطبيع» مع «العربية السعودية»، وأنّ استحداث حكومة جديدة بمشاركة واسعة من أحزاب «المعارضة» أمر أكثر من ملحّ لكي يصار إلى مفاوضات جدّية مع الولايات المتحدة، ومع «العربية السعودية» كل من ناحيتها.
فكيف لـنتنياهو أن يضمن لنفسه البقاء «حيّاً» من الناحية السياسية إذا لم يضمن سير «المعارضة» خلفه في «اتفاق» كهذا؟ وكيف لـ»المعارضة» أن تسير خلفه قبل أن يتراجع «كلّياً» عن خطة «الإصلاح القضائي»؟ وكيف له أن يضمن دعم الولايات المتحدة له قبل هذا التراجع؟ ثم كيف ستضمن الولايات المتحدة التوافق الإسرائيلي «الجديد» حول خطوات لها مغزى حقيقي على جبهة المفاوضات مع الفلسطينيين؟
أقصد أنّ ما يبحث عنه، وما يضغط باتجاهه الرئيس الأميركي ليس سهلاً على الإطلاق، و»الإنجاز» الذي يراه كإنجازٍ ضروريّ، وهو «إنجاز وحيد من زاوية الإمكانية، بصرف النظر عن صعوبات تحقيقه، والتي هي عقبات كبيرة، وكأداء من ناحية الواقع الإسرائيلي على الأقل».. هذا الإنجاز «الضروري» بالذات، وهذه العقبات على وجه الخصوص والتحديد هي الورقة الرّابحة التي تمتلكها «العربية السعودية».
تتجلّى فرصة «العربية السعودية»، للمرّة الأولى - كما أرى - في أنّها، أي العربية السعودية، ليست في عجلةٍ من أمرها، لأنّها تستطيع أن تنتظر، وهي في حالة الانتظار لا تخسر شيئاً، وإنّ جاء «الجمهوريون» فهي ستعتبر نفسها في «الجانب الآمن»، وإن عاد بايدن بالانتخابات فإنّه لن يعود إلّا بدعم اللوبي الإسرائيلي، وإن تمّ دعمه بصورةٍ مباشرة وكبيرة، فهذا يعني «استحالة» التوافق على حلٍّ حقيقي للصراع، وإنّما العودة إلى إعادة إدارته في أحسن الأحوال، بدلاً من حسمه، وبالتالي فإنّ «شروط» «العربية السعودية» في هذه الحالة - إن تعذّرت، إن لم نقل استحالت - ستعيد «العربية السعودية» إلى دائرة الموقع التفاوضي الأقوى.
عامل الوقت هو السيف المُسلّط على رأس الرئيس الأميركي، وعلى رأس نتنياهو بعكس «العربية السعودية». والحاجة للإنجاز هي حاجة أميركية وإسرائيلية، في حين أنّ «العربية السعودية» ليست بحاجةٍ خاصّة أو ماسّة لمثل هذا الإنجاز.
«العربية السعودية» لن تخسر شيئاً جوهريّاً من عدم إنجاز الاتفاق، وإذا أرادت أن تحقّق مصالحها فإنّ هذه المصالح قائمة في الوضع الراهن، وليس فقط من خلال الاتفاق، وإذا كانت ترغب بالتحوُّل إلى دولةٍ إقليمية معترف بدورها عالمياً، فهذا الاعتراف قائم بالفعل الآن، وربّما أكثر من حالة «تحقّق» الإنجاز، والاعتراف الإقليمي بهذا الدور تكرّس، ولا تزكّيه عملية «التطبيع»، إن لم يكن العكس هو الصحيح.
لهذا كلّه، فإنّ «العربية السعودية» تمتلك الورقة الرابحة فعلاً، ولديها فرصة قد لا تتكرّر أبداً لإحداث اختراق حقيقي في مسار «حلّ الصراع» في الإقليم.
هنا على القيادات الفلسطينية كلّها أن تُدرِكَ بعمق وحِنكة أنّ فرصة «العربية السعودية» يمكن أن تتحوّل إلى فرصة فلسطينية، إذا ابتعدت هذه القيادات عن الصراع الداخلي على «الصغائر» الفلسطينية، ووضعت مصالح شعبها فوق كلّ اعتبار.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية