ذهبت بعد وصولي بيومين إلى لندن للتسجيل لدي مركز الشرطة وفق الأصول المعمول بها. الشرطية تناولت جواز سفري والأوراق المطلوبة التي أحضرتها معي وبدأت اجراءات تسجيلي حتى تمنحني الورقة التي تجعل مكوثي قانونياً. فجأة قامت من خلف مكتبها معتذرة لتسأل شخصاً أعلى منها عن امر ما. عادت بعد ذلك لتقول لي بعد عشرات كلمات الاعتذار والرجاء بأن لا أفهم خطأ بأنها ستكتب في خانة الجنسية كلمة بلا دولة « Stateless « لأن فلسطين ليست دولة ولا يوجد شيء في خانات الجنسية اسمه فلسطيني. اشرت إلى مجمل الأوراق التي أمامها وقلت إن فلسطين موجودة في خانة الأماكن التي يفد منها المسافر مثل بقية الدول. قالت : هذه أماكن الوصول وليست قائمة الدول. وأخذت تشرح بكثير من الاعتذار أن الأمر ليس ذنبها و أن هذا لا يعتبر موقفها الشخصي بل هي متابعة للقضية الفلسطينية ومتعاطفة وحزنت كثيراً خلال العدوان الاخير على غزة . بل إنها أسهبت بإثبات مواقفها المؤيدة بالقول إنها تعرف أن البرلمان البريطاني أوصي الحكومة بضرورة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وتتمني أن تقوم الحكومة بذلك. وقالت إنها تتأسف لو كان هذا الأمر قد مسني بأي ألم، وهي واثقة أنه أمر محزن لكنها ليست صاحبة حيلة في ذلك. كانت خلاصة الحديث أن الأمر محتوم وأن على أن أقبل أن أكون بلا دولة في خانة الجنسية، على اعتبار أن كل ما قالت سيخفف من مأساتي وشعوري.
أيضاً حين وصلت برادفورد في شمال انجلترا حيث درست لنيل درجة الماجستير في العام 1998 كنت مثلما يفعل أي طالب أحاول أن استخرج بقية الأوراق الثبوتية التي تساعدني على الحياة في الحرم الجامعي مثل بطاقة الطالب وبطاقة المكتبة وما شابه. أيضاً في ذلك الزمن قبل سبعة عشر عاماً واجهت موقفاً مشابهاً حين كنت أقوم بتعبئة بياناتي ذاتياً على جهاز الجامعة حين لم اتمكن من العثور على كلمة تشير إلى مكان سكناي في فلسطين أو في غزة أو على جنسية تشير إلى هذا الارتباط. كانت كل الدول موجودة حتى الاماكن التي ليست بدول كانت موجودة أيضاً. بعد بحث لم يقد إلى شيء توجهت إلى الموظفة المسؤولة موضحاً الأمر معتقداً أن ثمة أمراً خطأ يمكن استدراكه. مثل أن تكون قد سقطت فعلاً كلمة فلسطين من القائمة أو أنها مكتوبة بطريقة لم استدل عليها، شيء من هذا القبيل. بعد ما بدا لي محاولات من قبل الموظفة رفعت رأسها واعتذرت بان الأمر لم يسقط سهواً أو أنه ناجم عن خطأ ما، بل هو حقيقة على تقبلها. سألت: وما هي الحقيقة؟ ، قالت : إن فلسطين ليست دولة وأنه لا يوجد شيء اسمه فلسطيني في قائمتها. قلت : وانا الذي يقف أمامك ماذا انا؟ قالت : هذا شيء آخر، وأن الشيء الوحيد الذي يمكن لها أن تفعله هو ان تتجاهل هذه الخانة على اعتبار أنها غير موجودة.
يبدو الأمر معقولاً لو أن ثمة حديث عن جنسية عالمية تسقط فيها الجغرافيا وتنهار تبعاً أسوار الحدود، لكن ما حدث معي وما يحدث مع كل الفلسطينيين في كل مرة ليس كذلك. فالعالم يتمسك بالحدود وبالجنسية وبالدولة الوطنية رغم كل مؤثرات العولمة التي حدت من هيمنة الدولة الوطنية وخففت من وطأة سيطرتها على حيوات مواطنيها. ورغم كل ما يقال عن المواطن العالمي وعن الانفتاح الهوياتي والتنوع الذي هو أصل التميز فإن العالم مازال محكوماً بكل قيود الدولة الوطنية وتقاليد الهيمنة والسيادة والتصنيف المتبادل للهوية بغض النظر عن كل القيم الأخرى. وعليه فإن اسقاط خانة الجنسية في الحادث الأول الذي مررت به قبل سبعة عشر عاماً لم يكن لأن الجنسية لم تعد مهمة او لأن هناك من يبحث عن فهم أشمل لمفهوم الانتماء تسقط فيه الجغرافيا بكل تعقيداتها ساحبة معها إلى قعر الواد التاريخ وتبعاته ومآسيه وآلامه حيث ينتهي كل شيء لصالح غياب التحديد الهوياتي. وفي الحادثة الثانية لم يكن وضع بلا دولة في خانة الجنسية تعبيراً عن البحث عن جنسية فوق الدولة، جنسية جمعية شاملة تغيب فيها الإشارة إلى الدولة كوحدة في مركزية في النظام الدولي، بل كان تعبيراً عن الحاجة للتاكيد على مركزية هذه الوحدة في تصنيف البشر في وترتيب علاقاتهم كمواطنين في دول عدة.
بعيداً عن كل ما قد يثيره هذا من ألم في النفس وربما الشعور بالإهانة الشخصية فإن فلسطين رغم ذلك لم تغب يوماً، والفلسطينيون لم ياخذوا تعريفهم لأنفسهم بانهم فلسطينيون لأن أحداً ما قرر أن يصفهم كذلك، بل لأن فلسطين لهم حتى لو رفض العالم وحتى لو صدر مئة وعد بلفور الذي تحل ذكراه المئوية المشؤومة بعد عام ونصف. هكذا ظلت فلسطين حتى لو لم تكن دولة موجودة في وجدان وقلوب الفلسطينيين وظلت حكايتهم التي لا يملون ترديدها ويحبون فعل ذلك، ليس من باب الحنين والتعاطف والبحث عن الماضي بل من أجل الشعور بالعلاقة مع المكان.
هذا يستدعي العمل أكثر على فرض فلسطين على مسرح الأحداث الدولية وتثبت اعتراف الدول بها ليس على مستوي التصريحات اللفظية والوعود السياسية، بل اجرائياً بما يقضى فعلاً بأن تكون فلسطين قبلة الفلسطينيين وحلمهم موجودةً حقاً. اشياء كثيرة علينا العمل لتحقيقها خاصة في غمار الصراع السياسي والدبلوماسي مع إسرائيل في المحافل الدولية بعد قرار الاعتراف الذي انتزعه الفلسطينيون من الجمعية العامة وسلسلة الاعترافات التي توالت من الكثير من الدولة. لكن يبدو أن ثمة جهود لم تنجز من أجل متابعة كل ذلك وهي قد تهدف إلى اجراءات بسيطة لكنها تقع في صلب تحقيق الانجاز حتى لا يشعر الفلسطيني بان فلسطينيته غير محققة. ورغم كل شيء فإن شيئاً على وجه الأرض لا يمكن أن ينزع هذه الفلسطينية عن الفلسطيني.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية