فيما أمعن الغزاة في سرقة بلادنا وقتل شعبنا وتدمير مدننا وقرانا وسرقة كل شيء في الأرض وحولها وعنها، فقد أسسوا أكثر عملية سرقة في التاريخ من خلال تطوير رواية تاريخية كاذبة تم توظيف الأكاديمية الغربية والفنون المختلفة والرحلات التبشيرية والإعلام بجانب الآثار والدراسات الشرقية من أجل تزييف الحقيقة وتقديم حقيقة مغايرة عن تاريخ البلاد.
تمت سرقة تاريخ البلاد وتم احتلال الرواية العالمية عنها بما في ذلك تفاسير الكتب المقدسة من أجل التمهيد لعملية السطو المادية على البلاد وأهلها.
كانت الرواية التاريخية الخاصة بالغزاة تجد آذاناً صاغية ومرحبة طواعية أو بحجة أو رغبة التخلص من وجود اليهود في أوروبا، وكنا نحن مشغولين في تفاصيل مختلفة أو كأننا لم نكن نعلم أن ثمة معركة تدور رحاها تحت سجادة الصالون حيث نجلس.
كان الغزاة يطورون مقولات ويبنون نظريات ويروجون لأكاذيب ويخلقون حكايات باهتة غير مشفوعة بدليل حول كل فترة تاريخية، وكان يتم الاحتفال بكل حجر يتم العثور عليه من أجل التأكيد على الحقيقة المختلفة ونفي أي شيء له علاقة بنا.
كل شيء كان يتم إعداده من أجل أن يقول التاريخ إن البلاد للغرباء وإن من فيها ليسوا ملاكها حتى تأتي اللحظة المناسبة للانقضاض على المدينة والريف الفلسطيني وسرقتهما وخلق مجتمع جديد بعد نفي المجتمع الموجود في البلاد. تمت سرقة روايتنا التاريخية لصالح رواية كاذبة.
هل كنا نفكر نحن في روايتنا التاريخية في أي وقت مضى؟.
يجب الاعتراف بأن ثمة قصوراً لا علاقة له بنتائج المشروع الصهيوني الاستلابي بل أيضاً قصور ذاتي.
لم يكن ثمة تفكير عربي بشكل عام في التاريخ القديم حيث إن كل شيء يبدأ في كتابات الأقدمين مع وصول الإسلام أو بالأحرى إيمان سكان البلاد بالدين السماوي الجديد. صحيح أن بداية ونهاية الأشياء (بالإشارة للطبري) كان يتم بحثها في بعض الكتابات ولكن لم يكن ثمة مشروع تاريخي عربي يذهب للتدليل على عروبة المنطقة أو علاقة سكان البلاد الأوائل بالشعب الممتد في المنطقة العربية.
وهذا لم يكن قصوراً فقط في مراحل نشوء الدولة العربية بعد خروج الدين من حدود الجزيرة إلى فضاء العالم بل إنه تواصل دائماً.
لقد غاب التاريخ عن الفكر العربي، وربما أن ثقافتنا القائمة على المشافهة والتي جعلت الشعر سيد النتاج العقلي العربي هي من جعلت من عملية التدوين أمراً غير مستحب بشكل كبير. وحتى حين كان يتم التدوين كان يتم تدوين سير الخلفاء ونوادرهم وقصصهم ومجالسهم خاصة القيم والأخلاق والشعر والنوادر.
كان هناك فهم خاص لم يجب نقله. ولم يكن هناك بحث مستفيض أو ضيق حول تاريخ المنطقة بعيداً عن عروبتها ودور الإسلام في صوغ هويتها المعاصرة حيث إن التاريخ كفكرة ربما لم يكن محبباً لأن «الإسلام يجب كل ما قبله».
نتج عن هذا غياب واضح للتاريخ من النتاج الفكري العربي رغم الحضارة العربية العريقة التي حكمت الأجزاء المهمة من العالم القديم وقدمت نفسها بوصفها وريثة كل الحضارات التي ازدهرت على كوكبنا، بل اعتنت بالنتاجات الفكرية لكل الشعوب التي ساهمت في الحضارة البشرية من رومانية ويونانية وهندية وفارسية. وأيضاً للأسف لم يكن هناك متابعة للكتابات التي وجدت في المنطقة العربية مثل الفرعونية والكنعانية وغيرهما. وهذا سؤال يستحق التأمل وربما لدى المؤرخين، ولسنا منهم، إجابات مختلفة حول ذلك.
لكن يظل اللافت أن مثل هذا الاهتمام بنتاجات الأقوام خارج المنطقة العربية ظل غائباً ولم يجد سبيله للمدونة العربية حتى تمت إعادة تسليط الضوء عليه من قبل المستشرقين. مرة أخرى لا بد أن ثمة إشارات في بعض الكتابات العربية من التفاسير إلى السير إلى المقدمات إلى البدايات. عناوين كثيرة تناولت في متونها بعضاً مما نشير إليه ولكن ما أقصده لم يكن ثمة اهتمام مستحق ومقدر بالتاريخ العربي القديم من قبل علماء العرب والمسلمين في الحقب الماضية. وهو عدم اهتمام استمر لفترة طويلة حيث تم تعزيزه أكثر من سيطرة العثمانيين بتوجهاتهم لنفي التأثير العربي على الخلافة والذي بدأ بتبديل التدوين من العربية إلى العثمانية، حيث لم يعد مقبولاً ربما البحث في تاريخ لا يرغبه أساساً الحاكم والباب العالي. هكذا تباطأ ظهور مدرسة تاريخية عربية بشكل حقيقي.
وربما يظهر السؤال مستحقاً: لماذا يبدو هذا مهماً عند الحديث عن غياب رواية تاريخية فلسطينية. ببساطة لأن هذا هو سبب غياب هذه الرواية. ليس هناك رواية تاريخية فلسطينية بسبب عدم وجود رواية تاريخية عربية وبحث عربي قديم في التاريخ.
التاريخ هو هبل وبعل وعشتار وفرعون وهؤلاء كفار وما إلى ذلك. هذا الغياب استمر فيما كان الآخرون يلوون عنق التاريخ ويجرون عمليات تشوية له من أجل أن يطابق مشروعهم الإحلالي الكولونيالي ويعملون بجهد من أجل سرقة البلاد. وحصل هذا قبل حتى ما يتم استكمال تطوير منظومة الوعي العربي بشكل يليق بتاريخ وتطلعات العرب السياسية الحقيقية.
وعليه وتأسيساً على السابق، يشير العنوان السابق إلى مهمتين واجبتين؛ الأولى تتعلق بكتابة الرواية التاريخية لشعبنا بمعنى سرديته الوطنية وحكاية وجوده في البلاد ويجيب عن أسئلة التاريخ المختلفة فيما يتعلق الآخر بغياب الرواية التي تدور أحداثها في التاريخ القديم، وهو بذلك يرمي إلى الجنس الأدبي المعروف بالرواية بوصفها قصة وحكاية متخيلة وقد تكون مستمدة من تفاصيل حقيقية لكنها تعكس مخيال الروائي عبر انتقائية الأدب الشهيرة للأحداث والشخصيات. وبذلك فإن كتابة الرواية التاريخية هي توجيه للكتابة السردية المتخيلة نحو التاريخ وصوغ أحداث وبناء شخصيات في الماضي حيث تبدأ القصة وتنتهي ،وقد تتشابك مع الحاضر عبر استرجاعات فنية يبدع الروائيون الجادون فيها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد