لو قام أبرز المحللين السياسيين قبل خمس سنوات بتقديم سيناريو للعلاقة الأميركية السعودية بأنها ستكون على هذا القدر من التوتر لتم اتهامه بالتخريف، فما يحدث بين أقوى حليفين منذ الأربعينيات معاكس لما يمكن أن تتكئ عليه المدرسة التاريخية في التحليل السياسي.
قبل أقل من عام اضطر الرئيس بايدن للقيام بزيارة للرياض بعد فشل مبعوثيه في إقناعها برفع إنتاج البترول بهدف خفض الأسعار لإضعاف الموقف الروسي في الحرب، لم تستجب الرياض وبدلاً من ذلك قامت بتخفيض الإنتاج في تحدٍ غير مسبوق ليعلن الرئيس الأميركي في نبرة تهديد تصدر لأول مرة بأنه «سيقوم بمراجعة شاملة للعلاقة الأميركية السعودية».
في تشرين الأول الماضي عاود البيت الأبيض محاولته مع السعودية قبيل الانتخابات النصفية الأميركية في محاولات لتحسين فرص الحزب الديمقراطي، لتتفاجأ برد أوبك التي تلعب فيها السعودية الدور الأكثر تأثيراً بتخفيض الإنتاج مليوني برميل.
وهو ما أثار الغضب في واشنطن ليأتي الرد السريع على لسان وزير الخارجية أنتوني بلينكن في مؤتمر صحافي في ليما عاصمة بيرو بأن «واشنطن ستدرس خيارات الرد على السعودية».
وما بين بلينكن في ليما وبلينكن في الرياض قبل ثلاثة أيام ما يشي بمتغيرات هائلة تطرأ على العلاقة، حيث تخلي لغة تهديد العام الماضي مكانها ويتم استبدالها بلغة أميركية أكثر دفئاً عن الشراكة وضرورات التعاون، لغة لم تعهدها الولايات المتحدة في تعاملها مع الدول التي تعصي أوامرها وتعارض مطالبها. فما الذي حدث ؟
حين بلغ الغضب الأميركي ذروته قبل ثمانية أشهر وعلى أبواب الانتخابات وقرار أوبك فعلاً عقدت جلسة نقاش للبحث في خيارات الرد كما هدد بلينكن في ليما، ووضعت على الطاولة وسائل العقاب التي أرغمت الرئيس الأميركي أن يأمر بضخ كميات من الاحتياط الإستراتيجي دون جدوى، لكن اتضح للمشاركين أن الولايات المتحدة لا تملك كثيراً من الخيارات بل إن في الخيارات المطروحة ما يمكن أن يشكل ضرراً على الاقتصاد الأميركي أكثر منه على السعودية.
ثلاثة خيارات كانت مطروحة على الطاولة: أن يتم تجميد أموال سعودية وأن يتم تخفيض العلاقات معها وأن يتم وقف تزويدها بالسلاح. لكن واشنطن اكتشفت أن في تجميد الأموال ما يؤدي فوراً إلى هروب كل أرصدة الدول التي ستقوم بسحبها فيها خوفاً من تكرار ما يحدث للسعودية ما يهز الثقة في الولايات المتحدة كمنطقة آمنة وفي هذا ضربة أكبر للاقتصاد الأميركي، أما في عقوبة تخفيض العلاقات معها ما يمكن أن يدفعها لإنشاء علاقات مع الصين وروسيا وبناء تحالفات استراتيجية مع تلك الدول، وأما عقاب وقف مبيعات الأسلحة فهذا يشكل ضرراً أكبر من جانبين الأول أن السعودية قادرة على شراء أسلحة روسية حديثة، على الجانب الآخر فإن ذلك سيشكل ضربة كبيرة لسوق السلاح الأميركي الذي بلغت مبيعاته العام 2021 حوالى 47 مليار دولار وكانت حصة السعودية من المشتريات تشكل 24% من السوق أي ما يقرب من 12 ملياراً استفادت منها مصانع الأسلحة التي تشكل أحد أكبر لوبيات الضغط السياسي في واشنطن .
كيف اكتشفت السعودية ممكنات قوتها الكامنة ؟.
صحيح أن الحرب الروسية الأوكرانية وفرت لحظة تاريخية ولكن تحسب للقيادة الشابة قدرتها على التقاط تلك اللحظة، فهي تقوم بتحولات هائلة في علاقات الدولة التاريخية بشكل لم تعهده السياسة السعودية التي امتلكت نفس الإمكانيات لكنها لم تستطع تحويلها إلى أوراق سياسية سوى مرة واحدة أثناء حرب العام 73 ثم تلاشت تلك القوة لصالح سياسات لم تكن في مصلحة المملكة أبرزها مستنقع أفغانستان، وهي حرب لم يكن للعرب فيها ناقة أو جمل استهلكت أموال العرب وشباب العرب وأحدثت ارتداداتها أزمات في الدول العربية حين عاد هؤلاء ليصارعوا إخوانهم واثقين بالنصر كما في كابول دون أن يدركوا أن الولايات المتحدة حينها هي من كان يدير لهم الحرب.
تصنع السعودية قوتها الناعمة وهي تعيد اكتشاف نفسها وممكنات قوتها، فهي تملك مقومات الدولة المركزية وهذا يختلف عن دول الهوامش إذ تقيم علاقات قوية مع الصين وتنهي خلافها مع إيران وتقرر مصالحها في أوبك حتى وإن تعارضت مع مصالح الدول الكبرى، وتتحرك على المستويين الإقليمي والدولي بثقة غير معهودة بالنسبة للسياسات السعودية تشي بطموحات كبرى بأن تصبح قوة مؤثرة على المستوى الدولي.
هناك تساؤل إذا ما كان الفعل السعودي الذي يسير معاكساً للرياح الأميركية يتعلق بالخصومة بين الرياض والحزب الديمقراطي لصالح الحزب الجمهوري «الصديق» وتحسين فرص ترامب وإذا كانت ستنتهي تلك الخصومة في حال عاد الجمهوريون ...سؤال مشروع ولكن السياسة تصنعها المناخات وليست حالة معزولة عن بيئتها، لا يمكن حسابها بالرياضيات بل بالكيمياء تتفاعل فيها كل العناصر المؤثرة والمستجدات. فقد اكتشفت الدولة نفسها وأقلعت ولا يمكن أن تعود للوراء، ربما لعبت المصادفات دوراً في الاكتشاف لكن الدولة لن تفرط بمكانتها الجديدة التي تصنعها متكئة على إمكانيات هائلة وتجيد استخدامها سياسياً لتعود تحت مظلة الآخرين، فهي تصنع مظلتها الخاصة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية