حين بدأت الطائرة بالهبوط التدريجي قبالة شاطئ فلسطين في الرحلة من اسطنبول لعمان كنت أنظر من النافذة إلى حيفا، والفلسطيني قلبه يرجف حين يرى تلك البلاد التي ظلت لنا رغم نكبتنا.
كتب راشد حسين «فقالوا: أنت مجنونٌ ولن تشفى / أمامَك جنَّةُ الدُّنيا  / ولستَ ترى سوى حيفا»، وكان صدى صوت أحمد دحبور وهو يقول: «كل له حيفاه» يتردد في أذني.
وعلى الجانب الآخر من الطائرة كان الساحل الفلسطيني يمتد حتى نهاية البحر الأبيض المتوسط حيث تربض غزة التي ظلت وستظل تقاتل حتى الرمق الأخير.
يصف غسان كنفاني بألم لهجة تهجير عائلته ولحظة الخروج القهري من أرض البرتقال الحزين: «رأيت صف السيارات الكبيرة يدخل لبنان طاوياً معارج طرقاتها ممعناً في البعد عن أرض البرتقال... أخذت أنا الآخر، أبكي بنشيج حاد... كانت أمك ما زالت تنظر إلى البرتقالة بصمت... وكانت تلتمع في عيني أبيك كل أشجار البرتقال التي تركها لليهود... كل أشجار البرتقال النظيف التي اشتراها شجرة شجرة، كلها كانت ترتسم في وجهه... وترتسم لمّاعة في دموع لم يتمالكها أمام ضابط المخفر... وعندما وصلنا صيدا، في العصر، صرنا لاجئين».
تذّكر النكبة ليس احتفالاً ولا احتفاءً بل هو جزء من عملية مقاومة النسيان وعمليات المحو التي تريد أن تنفي الفلسطيني خارج متن التاريخ وخارج تخوم الجغرافيا. الفلسطيني الذي اقتلع من بيته كان عليه أن يذوب ويندمج وينصهر مع التجمعات البشرية التي وصل إليها وتنتهي حكايته ويتم طي صفحة وجوده في كتاب الحياة ولا يعود موجوداً.
إنه المنطق الذي جعل قادة العصابات الصهيونية ينفون وجود شعب فلسطيني.
بل سيصل الأمر إلى سرقة رواية وجوده في أرض آبائه وأجداده من خلال تبني نظريات الوجود القديمة في فلسطين مثل قول المستوطن سموتريتش قبل فترة إنه الفلسطيني الحقيقي ومثل وجود نظريات كنعانية في مدارس التزوير التاريخي في جامعات الاحتلال.
كان على الفلسطيني أن ينتهي، أن لا يصبح هناك شيء اسمه شعب فلسطيني حتى وإن وجد عبر الزمن فهو لم يعد قائماً. إنها مثل القول بوجود حقبة كنعانية في التاريخ ولكن لا يوجد شعب كنعاني، المقولة التي للأسف ينبني عليها الكثير من المداخلات التاريخية من بعضنا في انسياق غير دقيق وراء الأطروحات الغربية بدواعي العلمية والمنهجية. كانت الخطة الصهيونية أن يتم نسيان ليس النكبة بل من وقعت بحقهم النكبة وما أوقعته بحقهم من مذابح وتقتيل وتشريد.
هذا الفلسطيني الذي عمر البلاد منذ نبت فيها الحنون والسريس والزعتر والميرمية يجب أن يصبح جزءاً من ماضٍ غير موجود. كان التناسي جزءاً من مركب النكبة كما كان ضياع الهوية الفلسطينية جزءاً من تضييع الشعب وتذويبه في المحيط وتهويد بلاده وانصهار من بقي منه داخل الجغرافيا.
كانت النكبة أكثر من مجرد تهجير للسكان الأصلانيين أصحاب البلاد ـ بل كانت حرباً مركبة على رواية الشعب الفلسطيني وحكاية وجوده في البلاد.
لذلك فإن عملية سرقة فلسطين بدأت مبكراً في معاهد الأبحاث والجامعات كما في الاستشراق الأدبي والفني كما في البعثات والفرق التبشيرية. تذكروا أن أول مستوطنات كولينيالية في البلاد كانت أميركية وألمانية. كان ثمة خطة متكاملة لسرقة فلسطين من أصحابها لكن قبل أن يبدأ ذلك كان يجب سرقتها واغتصابها على مستوى الفكرة من خلال نفي وجود فلسطين في كل سياقات الوعي والإنتاجات الأدبية والفنية.
كان مجرد إشارات هيرمان ميلفل لبشاعة المستوطنات الصهيونية في البلاد في أحد نصوصه كفيلة بأن تنفيه خارج المدونة النقدية السامية للأدب الأميركي وهو صاحب واحدة من روائعه الكبرى «موبي ديك».
كان يجب ألا يأتي يوم يستذكر فيه أحفاد من تم تهجيرهم وترويعهم وقتلهم ما حدث لأجدادهم، وربما لا يعرفون ما حدث فعلاً لهم وما تعرضوا له من مذابح.
كان يجب ألا ينسى الصغار فقط بعد موت الكبار بل أيضاً كان يجب محو كل هذا الفصل من كتاب التاريخ والقفز عنه بشكل مذهل مشفوعاً باستشراق جديد يتم فيه تغييب الفلسطيني من السرد والاكتفاء بإشارات مبهمة عن وجود غامض. كان يجب أن يتم نسياننا، اندثارنا، اختفاؤنا. كان يجب أن نصبح نسياً منسياً.
ما كان يجب أن يأتي اليوم الذي يتذكر فيه الأطفال في مخيمات اللاجئين وفي كافة بقاع الأرض نكبة أهلهم ولا أن يقف العالم لتذكر النكبة في الأمم المتحدة، المنصة التي تم عبرها وعبر قراراتها ذبح الشعب الفلسطيني وتطويع إرادة المجتمع الدولي من أجل تسهيل مهمة الصهيونية العالمية في سرقة فلسطين وتهجير أهلها.
من المؤكد أن بن غوريون وبقية شركائه الآخرين لم يكن يخطر ببالهم أن يقف طفل فلسطيني تم تهجيره من فلسطين ليخطب في العالم حول حقه المسلوب بعد خمسة وسبعين عاماً، ولا ينشد شاعر يصف عتبات بيت جدته التي بقر بطنها رجل العصابات ولا أن يكتب روائي في وصف تلال لم ترها عيناه لكنه حفظها من وصف أمه وجيرانه.
مرت السنون ولم يحدث كل هذا. ظل شعبنا يتذكر وظلت النكبة وصمة عار في جبين العالم الذي صمت عليها، وظلت تفاصيل المذابح التي اقترفت بحقنا حية في ذاكرة الأجيال وظل الحق الفلسطيني حاضراً لم يغب لأن ثمة مساراً يجب تصويبه وثمة أخلاق يجب استعادتها حتى يستقيم وعي البشرية وحتى يتم تطهير ضميرها الذي تلوث بنكبتنا.
لم نمت. لم نختفِ. لم نندثر. لم نتلاشَ. لم نختر بلداً لنا غير فلسطين.
رد ياسر عرفات على مذيع ذات يوم أن حجراً من فلسطين يساوي العالم وما فيه. وستظل فلسطين أغلى وأسمى وأكبر ما نملك وما نحلم به.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد