قبل كلّ شيء فإن الدور الإقليمي للمملكة العربية السعودية في الواقع القائم، وما ينطوي عليه هذا الدور في المستقبل المنظور ما زال قيد التبلور، وهو يُقرأ كاتجاه أو نزعة ــ وهو يجب أن يُقرأ كذلك ــ ليس فقط لأنّ مثل هذا الدور قد يتعرّض لإعاقات، قد تكون كأداء، وقد تنطوي على تراجعات معيّنة، وإنّما لأنّ هذا الدور "مرصودٌ" من قبل "الغرب" كلّه، وقد لا تكون "مواجهة" مثل هذا الدور مواجهة "ناعمة"، وذلك بالنظر إلى الأهميّة الإستراتيجية الكبيرة لـ "العربية السعودية" في العالم عموماً، وفي "الإقليم" على وجه التحديد والخصوص.
جوهر ومضمون هذا الدور هو أن "العربية السعودية" في ظلّ تولّي وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان لمفاصل الحكم والدولة في المملكة، وما بات يُعرف عنه من معرفة وإلمام وإحاطة، وانفتاح على "الجديد" في عالم اليوم، وما بات مُعلناً من توجهات الأمير من ضرورات مُلحّة لتحديث الدولة السعودية، وتحديث المجتمع السعودي وبّما يتطلّبه كلّ ذلك من تشريعات وإصلاحات، وإجراءات، ومن تخطيط على المديات الثلاثة، المباشرة والمتوسطة والبعيدة.. في ظلّ هذا التغيّر الكبير والحاسم أصبح بالإمكان أن تلعب المملكة دوراً جديداً، رائداً وقائداً في منطقة على أعلى درجات الأهميّة للاقتصاد العالمي، ولحركة الملاحة الدولية لمنتجات الطاقة، وفي توفير الاستقرار المطلوب فيها، وأصبح بالإمكان الانتقال من دور "الإشراك" إلى الشراكة، ومن "الإملاء" إلى التفاهم والتعاون، ومن تعويم المصالح السعودية إلى تحديدها، ومن تماهي هذه المصالح في إطار المصالح الغربية الكبرى والخالصة إلى قواعد وأُسس جديدة في هذا التحديد.
فما هي هذه القواعد، وهذه الأُسس التي حتّمت وأفضت، وأدّت بالفعل إلى هذا الانتقال التاريخي الجديد؟
أوّلاً: أثبتت الوقائع لـ "العربية السعودية"، وبما لا يدع أيّ مجال للشكّ بأنّ الولايات المتحدة الأميركية ليس لها من الحلفاء الثابتين في كامل منطقة الإقليم سوى إسرائيل، بل وبات هذا الأمر بحدّ ذاته مطروحاً من زاوية: أيّ إسرائيل؟ تماماً كما هي مطروحة، أيّ أوروبا؟.
وقد تبين لـ "العربية السعودية" بوضوح تام، وبصورةٍ سافرة في فترات ومناسبات عدّة أن الولايات المتحدة لا تنظر إلى "العربية السعودية"، ولا لأيّ دولة عربية سوى كونها شريكاً خاصاً لأسباب اقتصادية أو مالية، أو شريكاً تابعاً للاستراتيجية الكونية لأميركا، وأنها ــ أي أميركا ــ لا تهتمّ بالمصالح الخاصة للبلدان العربية، وأن كل ما تعمل عليه [في إطار رؤيتها لهذه المصالح] ليس سوى الطريقة التي "تؤمّن" بقاء إسرائيل في موقع الهيمنة، والتفوّق، والعمل لكيّ يتكيّف الإقليم كله مع متطلّبات هذه الهيمنة، وبحيث تقوم إسرائيل بدور المدير التنفيذي للمصالح الأميركية والغربية، وتحصل بموجبه إسرائيل على نصيبها من الأرباح الهائلة التي تحقّقها الشركات الغربية، وخصوصاً الأميركية منها جرّاء التحكّم بقطاع الطاقة في عموم منطقة الخليج، وجرّاء مشتريات الأسلحة التي لا تستخدم إلّا لمصلحة "الغرب"، وجرّاء التحكّم بكل الفوائض المالية لمجموع الدول العربية في الخليج العربي، وجرّاء الأرباح الطائلة التي تجنيها الاقتصادات العربية من الأسواق الاستهلاكية الخليجية التي تُعتبر من أكثر الأسواق ديناميكية في العالم كلّه.
أدركت القيادة السعودية الجديدة بالوقائع الملموسة أن الحزبين "الديمقراطي" و"الجمهوري" الأميركيين، إن لم يكن على حدّ سواء، فمن دون أي فوارق جوهرية إنّما يعملان معاً، أو كل على انفراد من أجل الاستحواذ على الثروات السعودية والعربية.
الرئيس جو بايدن أراد أن يستخدم سلاح "الطاقة" في حربه ضد روسيا في أوكرانيا، والرئيس دونالد ترامب قال في مؤتمرات جماهيرية إن "ما تسمّى" الثروات السعودية هي أصلاً "زائدة" على حاجتهم، وهي ثروات تعود لـ "الغرب"، و"الغرب" هو مالكها الحقيقي، وتذكرون تهكُّماته المعيبة بهذا الشأن.
وأدركت "العربية السعودية" أن ترامب لم يلغِ الاتفاق النووي مع إيران "لسواد عُيون المملكة"، وإنّما لأنه أراد أن يضمن دعم "المسيحية الصهيونية" الموالية لإسرائيل، وأراد أن يقوّي مصالح "اليمين" في إسرائيل، ولم يتردّد في طرح " صفقة القرن "، و"ضم الجولان"، و"الاعتراف ب القدس عاصمة لدولة الاحتلال" دون أيّ مُراعاة لأي دولة عربية بما فيها، وربّما على رأسها "العربية السعودية".
وأما الحزب الديمقراطي، والرئيس بايدن فقد اعتبر قضية "خاشقجي" واحدة من مفاصل حملته الانتخابية، أو هكذا تمّ تصوير الأمور في بعض الأحيان.
وكما عمل ترامب على ترتيب صفقة "السلام الإبراهيمي" فقد واصلت الإدارة الحالية نهج وسياسة "التطبيع المجّاني" متناسيةً ومُغفلة بوعي وتخطيط أنّ ما يسمّى "السلام الإبراهيمي"، وباعتباره "البديل" عن السلام الحقيقي يضرّ بالمكانة الدينية المرموقة لـ "العربية السعودية"، ولدى أكثر من مليار ونصف المليار مسلم، وعند الغالبية الساحقة من البلدان العربية والإسلامية.
أي أنّ أميركا، و"الغرب" كلّه ظلّوا يتعاملون مع المملكة، وكأنّ العالم ما زال تحت إمرتهم وهيمنتهم، أو كأن على "السعودية" والعرب أن يندرجوا تلقائياً لدعم الولايات المتحدة في حروبها من أجل بقاء هذه الهيمنة، بل وطالبوا "العربية السعودية" أن ترفع إنتاج النفط، وتخفّض الأسعار من أجل "الغرب"، ومن أجل محاربة روسيا، وعلى حساب المصالح المباشرة للسعودية. ما يعني أنّ "الغرب"، وأميركا على وجه الخصوص لم يلحظوا ولا بأيّ شكلٍ أو صورة أن هناك شيئاً اسمه المصالح العربية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية