ينطوي خطاب بنيامين نتنياهو الأخير على اعترافات تُضفي أهمية كبيرة على تقييمات كان ومسؤولون آخرون ينكرونها ويُغطّون عليها، بلغة متبجّحة، اعترافات تفصل بين العنجهية والواقع.

يعترف نتنياهو بأن الردع الإسرائيلي آخذ في التآكل، ولذلك فإنه يعد الإسرائيليين بأنه سيعمل على استعادة الردع. لغة ضعيفة وربما تعكس حالة من الانكسار، خصوصاً أنه غير قادرٍ حتى اليوم على تمرير مشروعه الذي يتصل بالقضاء، حتى لو أنه لم يُسلّم الراية حتى الآن، ومن غير المستبعد أن يُسلّمها لاحقاً.

نتنياهو تخلّى عن لغة الغُلُوّ، والتهديد الفارغ بأن إسرائيل قادرة ومستعدة لخوض حربٍ على جبهات متعدّدة، ولذلك فإنه يعلن أن إسرائيل لا ترغب في خوض مثل هذه المغامرات المُكلِفَة. لكنه يعود إلى لهجة التهديد والغدر حين يُعلن أن إسرائيل لن تسمح لحركة " حماس " بأن تؤسّس بنية تحتية لوجود عسكري لها في لبنان.

قد يعني ذلك، أن إسرائيل قد تعمد للعودة إلى سياسة الاغتيالات، واستهداف قيادات أو كوادر لـ"حماس" في لبنان، وفق حسابات لا تؤدّي إلى استثارة حفيظة "حزب الله" إلى الحدّ الذي يجعله يبادر ب فتح النار أو الردّ على ما تقوم به إسرائيل.

ربما يعزّز هذه الفرضية بيان وزارة الخارجية الفلسطينية، الذي حذّر من أن إسرائيل بصدد القيام بشنّ عدوان على قطاع غزة ، بعد انتهاء عيد الفصح.

منطقياً، لو أنّ إسرائيل لها مصلحة، ويدها مُطلّقة في شنّ مثل هذه الحرب، لكانت واصلت عدوانها الأخير على القطاع، حيث كانت جولة القصف محدودة وانتقامية، رغم سقوط صواريخ من غزّة ولبنان على إسرائيل.

وقف العدوان، ومحدوديته، لم يكن بالأساس نتيجة للوساطات التي بادرت للتواصل مع كافة الأطراف، فلو أن مصلحة إسرائيل كانت تقتضي المواصلة لما كانت توقفت عن عدوانها.

صحيح أن التدخُّلات الأميركية، خصوصاً ومن قبل الأشقاء العرب تنطوي على أهمية في الضغط لتجنُّب انفجار الأوضاع في المنطقة التي ترتفع فيها حرارة الرغبة في الانتقام، إلا أن الحسابات الإسرائيلية تذهب إلى قراءة مُعمَّقة في النتائج المرتّبة على إسرائيل، والثمن الذي تتوقّع أن تدفعه على خلاف لما كانت تفعل في مرّات سابقة.

مرتبكة جدّاً حسابات السَّاحر نتنياهو هذه المرّة، ولا يبدو أنه يملك خيارات واضحة في ضوء تفاقم الأزمة الداخلية وهشاشة الجبهة الداخلية، وفشل حملة "كاسر الأمواج" في الضفة الغربية بسبب الفظائع التي ارتكبتها، وتسبّبها في زيادة معدّل العمليات من قبل المقاومة في الضفة.

"لا مَع ستّي بخير ولا مَع سيدي بخير"، فهو ــ أي رئيس الحكومة ــ غير قادرٍ على ضبط إيقاع وسلوك وزرائه، وغير قادرٍ على تخفيف حدّة "المعارضة" الداخلية المتزايدة، وأيضاً بسبب تداعيات ذلك على علاقات وصورة إسرائيل الخارجية حتى مع أقرب حلفائها.

إذا أردنا وضع اليد على ما يوحّد الإسرائيليين، فإننا لن نجد غير الأمن، الأمر بالمعنى الوطني، وأيضاً بأبعاده الاجتماعية الجماعية والفردية.

رئيس المعارضة يائير لابيد أعلن أن الإسرائيليين سيكونون مُوحَّدين في مواجهة أي خطر خارجي، وهو ما تؤكده سياقات وأسباب الأزمة الداخلية، والتي تتعلق فقط ببرنامج "الإصلاح القضائي" الذي تصرّ الحكومة على تحقيقه.

الإسرائيليون "ما عدا ذلك" فإنهم مُوحَّدون إزاء موضوع الصراع مع الفلسطينيين، ومع كل من يناصب إسرائيل العداء، حتى لو كانت هناك بعض الانتقادات الانتهازية لسلوك إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش والشرطة في القدس والمسجد الأقصى.

يخشى نتنياهو، حتى لو أنه لا يعترف بذلك، من أن يؤدّي سقوط مئات وربما آلاف الصواريخ سواء من غزّة أو من لبنان، إلى هز استقرار المجتمع.

إذا كانت ذخيرة الحكومة تحقيق الأمن الشخصي والجماعي للإسرائيليين، فإن سقوط الصواريخ من شأنه أن يؤدّي إلى تقويض الشعور بالأمن، وربما يوفّر دافعاً للكثيرين لكي يغادروا إسرائيل إلى حيث الأمن والأمان.

الحديث عن تقويض وتراجع قدرة إسرائيل الردعية لا يعني أن إسرائيل باتت ضعيفة من حيث القدرة العسكرية، فهي لا تزال تملك قدرات تدميرية هائلة، لكن سؤال الردع لا يتوّقف فقط على امتلاك القدرة، وإنّما، أيضاً، بالقدرة الاقتصادية وتماسك المجتمع، وحماية الجبهة الداخلية وصمودها، وهذه ترتسم عليها علامات شكّ كبيرة. إلى ذلك، يُكمل نتنياهو خطابه الضعيف، حين يصدر قراراً بمنع دخول اليهود إلى المسجد الأقصى، خلال العشر الأواخر من شهر رمضان .

السبب في ذلك هو أنّه بات يُدرك الخسارة المتحقّقة جرّاء العنف الذي تستخدمه الشرطة في المسجد الأقصى، واقتحامات واستفزازات المستوطنين المتطرفين للمسجد، باعتبار ذلك يشكل استفزازاً قويّاً يتجاوز الفلسطينيين، ويجلب لها الكثير من النقد، والاستنكار، عربياً وإسلامياً ودولياً، أيضاً.

بطبيعة الحال، لم يكن موقف بن غفير احترام القرار والالتزام به، وإنّما اتهم نتنياهو بأنّه اتخذ هذا القرار تحت ضغط ما يُسمّيه ويعتبره بن غفير الإرهاب، وهذا اعتراف آخر بقوّة المقاومة الفلسطينية وبهشاشة الردع الإسرائيلي.

قرار نتنياهو تكتيكي، فهو يصلح فقط لعشرة أيّام، لكنه سيعود إلى السياسة والسلوك ذاته بعد انقضاء الوقت، فضلاً عن أنه لا يعني أن إسرائيل ستعود إلى سكّة الالتزام بما تقرر في اجتماعَي "العقبة" و"شرم الشيخ".

وبظنّي أن إسرائيل ستكثّف حملاتها القمعية في الضفة الغربية، والتركيز على بؤر المقاومة الساخنة، هذا إذا نجحت الحكومة في ضبط سلوك سموتريتش وبن غفير والجماعات المتطرّفة الأخرى التي أعلنت رفضها للقرار.

ثمة بالتأكيد ما يدور في رأس نتنياهو الذي يلاحظ تهاوي وتراجع مكانة "الليكود" وأطراف تحالفه فيما لو جرت انتخابات هذه الأيام، وفق آخر استطلاعٍ للرأي، والخشية حاضرة من أن يرتكب نتنياهو حماقة عدوان على بعض الجبهات؛ في محاولة لتحسين صورته وائتلافه من باب الأمن الذي يشكّل الأولوية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد