بدا الاتفاق السعودي الإيراني على تطبيع العلاقات أمراً مستغرباً وأثار الكثير من النقاش وردود الأفعال نظراً لطبيعة التوتر بين البلدين الهامين في العالم الإسلامي ومكانتهما الدينية، وذلك لأنه عنى أكثر من تحول على أكثر من جبهة وفي اكثر من محور، بجانب أنه شكل افتراقاً كبيراً بالنسبة للبلدين عن سياسات تم تبنيها من طرفيهما طوال عقود من الزمن.
وفي الحقيقة فإن المتتبع لما جرى كان يمكن له أن يدرك أن ثمة تحولاً هاماً يجري في السياسة الخارجية السعودية يحمل معه استراتيجيات جديدة وتوجهات أكثر بعداً في النظر إلى المستقبل، وتعني ضمن أشياء كثيرة تحرير المملكة الأهم في المنطقة من تبعات كثيرة كانت تشكل عائقاً أمام اضطلاعها بدورها الريادي والتاريخي في المنطقة.
من المؤكد أن الخلاف السعودي الإيراني لم يكن بالمعنى الحرفي خلافاً بين بلدين، بل هو خلاف بين عالم سني وعالم شيعي، وكانت الدولتان تشكلان تعبيراً صريحاً في الدفاع عن هذين العالمين. لم يكن ثمة حروب مباشرة بينهما ولا صراع حدودي ولا بقايا ثأر قديم ضمن اصطفافات متباعدة او متقاربة في العلاقات الدولية. كان ثمة عالم شيعي تتزعمه إيران وكانت الأخيرة تبني فلسفة سياستها الخارجية بطرق ملتوية للتدخل في شؤون الدول السنية من خلال ما يعرف بالأدبيات الإيرانية بـ»تصدير الثورة»، وكان هذا التصدير يعني أن يتم زعزعة نُظم الحكم في الدول السنية الكبرى، وفي حال تعذّر ذلك إيجاد موطئ قدم للمشروع الشيعي في الدول الأكثر هشاشة.
وضمن هذا النطاق كان يتم توظيف دعم «المقاومة» بوصف هذا الدعم سيجلب تأييداً جماهيرياً لما تتمتع به الجماهير العربية من حس قومي فطري يدعم أي نضال ضد الاحتلال، وخاصة الاحتلال السرطاني المتمثل باحتلال فلسطين. لم يكن دعم المقاومة إلا مثل ما كانت تدّعيه واشنطن من دعم الديمقراطية في أميركا اللاتينية. وكان الخصمان البعيدان طهران وواشنطن ينفذان سياسات متقاربة كل في الحديقة الخلفية له بأسماء مستعارة.
ما أرمي إليه هنا أن الأساس لم يكن خلافاً بين الرياض وطهران ولم يكن ثمة عداء سعودي متأصل ضد إيران، بل كان هناك قلق سعودي من أن تقوم طهران الفارسية بغزو المنطقة العربية، وكان هذا ممكناً مثلاً خلال حرب الخليج الأولى. عموماً هذه أشياء باتت من الماضي، ولكن من المهم تأمّل هذه الحقيقة من أجل الوقوف على مسببات اللحظة التي بات فيها ممكناً ان يزول هذا العداء. فطالما أن طهران لا ترغب بالتدخل في الدول العربية ولا تسعى إلى تصدير «ثورتها» التي لم تحدث إلا في طهران، وفي استخدام حصان طروادة المقدس من أجل غرس جذور لها في بعض الدول العربية، فإن نمو إيران وحتى امتلاك إيران لسلاحها النووي أمر خاص بها ولا يمكن له أن يشكل تهديداً للعالم السني.
وربما بكلمات أكثر وضوحاً لا يمكن لنا أن نواصل معركة عمرها أكثر من الف وخمسمائة سنة تقريباً. صراع ينعكس على كل مناحي حياتنا من السياسة الدفاعية والخارجية إلى المسلسلات الرمضانية. الطوائف جزء من الأديان وهي ليست حكراً على الدين الإسلامي، فالديانة الكبرى الأخرى في التاريخ أي المسيحية مليئة بالطوائف والمذاهب، وهذا لا يعيب الأديان بل ربما يشكل مصدر ثراء لها، ولكن أن نظل أسرى صراع متواصل بسبب حادثة تاريخية اجتهد العلماء في تفسيرها أو تصارع الأمراء من أجل توظيفها لمواقعهم، وربما بغض النظر عن كل ذلك فإن الأساس أن لا يكون هذا مصدر صراع واقتتال بين دول يمكن للسلام بينها أن يجلب المزيد من الخير في المنطقة.
النقطة الأخرى التي يجب الإشارة لها هنا هي حقيقة التحولات في السياسة السعودية التي يتبناها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. فالأمير الشاب ينظر إلى السعودية الجديدة التي تستطيع أن تكون نقطة ارتكاز في السياسة الدولية وقوة كبرى ليس عربياً بل ربما إقليمياً وعالمياً. ومن أجل ذلك فإن ثمة محاولات جادة للتأكيد على الهوية الخالصة لتلك السياسة. وهذا يجب أن يعتمد على تحريرها من افتراض الهيمنة والتوجيه الاميركيَّين. مثلاً في الصراع الدائر بين روسيا واوكرانيا لم يرتهن الموقف السعودي لرؤية الغرب من واشنطن حتى لندن وبروكسل، بل ارتكز على المصالح السعودية في قضية النفط والغاز والمصالح الجيواستراتيجية. طبعاً هذه الشخصية السياسية الخارجية التي طورتها السعودية في السنوات الأخيرة يمكن ملاحظتها بعشرات التفاصيل الصغيرة الأخرى والتي من شأن سردها أن يدلل على كيفية حدوث التحول نحو استقلال القرار السعودي وتحريره من أي تأثير. ربما أن العالم الجديد أيضاً يوفر مثل تلك الفرص التي تجعل ظهور القوى الكبرى في أكثر من زاوية فيه أمراً محتماً. والسعودية مؤهلة للقيام بهذا الدور لأكثر من سبب.
أيضاً يبدو أن التوجه نحو المصالحة مع إيران ارتكز على فهم يقضي بضرورة تصفير الأزمات من أجل التفرغ لعملية إعادة بناء السياسة الخارجية، وتقوية جبهة الحلفاء على حساب تآكل الصراعات والأزمات. الدولة الباحثة عن نهوضها الجديد ليست بحاجة للمزيد من القتال والانشغال والاشتباك مع الجيران بل هي بحاجة لحالة من الاستقرار. السعودية المعاصرة التي ستجتذب السياح والمستثمرين والصناعة والنهضة الثقافية التي بدأت في الظهور لن تكون فقط دولة النفط الغزير، بل سيتم توظيف القوة الاقتصادية من أجل تظهير أشكال القوة الأخرى. وربما هنا وجب التنويه إلى ضرورة وجود سلاح نووي عربي ويمكن للسعودية أن تقود هذا التوجه، ليس من أجل شيء إلا من أجل حماية العرق العربي من صراع مستقبلي حتى لا نكون العرق الوحيد على وجه الأرض الذي لا يوجد سلاح رادع في وجه فنائه. هذه مهمة مستقبلية لا بد أن تكون جزءاً من أجندات بناء الحالة العربية المستقبلية.
وفي كل ذلك ثمة قوتان أساسيتان من عناصر القوة السعودية، تتمثل الأولى بأهمية المكانة الدينية للسعودية في العالم الإسلامي، ومرتبط بذلك، وهذه النقطة الثانية، الواجبات المتحتمة عليها تجاه قضية العرب والمسلمين الأولى أي قضية فلسطين.
المصدر : وكالة سوا
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية