لا بد أن الكثيرين ما زالوا يذكرون بسطات بيع الكتب التي كانت تنتشر بكثرة في شوارع مدينة غزة خاصة قرب سوق فراس على جانبي الطريق المفضي إلى ساحة فلسطين صعوداً، أو على سور المستشفى المعمداني أو في الزقاق الموصل بين عمر المختار ومنطقة الفواخير. بالطبع بجانب عشرات الاماكن الاخرى التي كان يمكن لعابر السبيل أن يقف فيها فجأة ليلتقط كتاباً ويشتريه بثمن معقول. كانت تلك البسطات تنتشر بطريقة ملفتة وكانت جزءاً من الايقاع العام للمدينة مثلها مثل أشياء كثيرة تنتشر فيها من محال وأسواق. فهي لم تكن مجرد شيء آخر، إذ ان وجودها كان بعضاً من اكتمال المشهد الحقيقي.
كانت هناك أيضاً محلات بيع الكتب التي كان بعضها كبيراً وبعضها الآخر متواضع المساحة، لكنها أيضاً كانت موجودة وكانت تجاور تلك البسطات بشكل متكامل. لم تكن الكتب تتوفر بطريقة كبيرة رغم ذلك إذ أن اجراءات الاحتلال والتعقيدات المفروضة على استجلاب الكتب ونقص وجود دور النشر والمطابع وما كان يُفرض عليهما من قيود تجعل طباعة الكتابة عملية معقدة، كل تلك جعلت الكتاب شيئاً عزيزاً لا يتوفر بسهولة. كما أن الموضوعات والعناوين التي كانت تتوفر كانت في أغلبها تنتمي إلى ما يعرف بالثقافة العامة التي يأتي الكتاب الديني في قلبها والموضوعات المتعلقة بالحياة العامة. رغم ذلك كان ثمة كتاب متوفر دائماً في أي زاوية أو زقاق قد تذهب إليه. كان ثمة كتاب ملق على ناصية الطريق يدعوك لشرائه.
يمكن القول إن هذه البسطات اختفت الآن كما يمكن أن يلاحظ أي عابر سبيل في تلك الشوارع. لم يعد لها وجود. تدريجياً منذ قرابة عقد من الزمن انسحبت في الظل وصار نادراً ما ترى بسطة كتب في الشارع. مثل أشياء كثيرة تختفي ولا تعود تظهر مرة أخرى. مثل السينما التي لم يعد لها وجود في مدينة غزة التي شهدت وجود السينما طوال عقود سبقت النكبة . ومثل مناحي كثيرة في الحياة الثقافية صارت إثر بعد عين. مر ذلك الزمن الجميل وكأن سمة الأشياء أن تذهب ولا تعود.
من المؤكد ان القصة ليست قصة بسطات ولكن هي قصة كتاب وقصة عادة من عادات المكان لم تعد متوفرة. الكتاب الذي يمكن ايجاده بصعوبة وإن توفر فهو مرتفع الثمن بحيث يمكن القول إن الحصول عليه متعذر بالنسبة للغالبية العظمي من المواطنين، الذين لن يجدوا من الحكمة أن يقوموا بدفع مبالغ طائلة لشراء كتاب ما فيما الحياة ترميهم بسهام القسوة وشح الموارد. بالطبع إلى جانب ندرة العناوين التي من شانها أن تحمل الثقافة والوعي الشعبي وتسمو بهما. وعلى ما في ذلك من تعميم ربما وبعض الحنين، فإن البسطات كانت تساهم ولو قليلاً في تعبئة الفراغ وفي تقديم البديل وسد العجز.
يمكن سوق عشرات الأسباب حول ارتفاع سعر الكتاب او قلة وجوده او عدم اقبال الناس عليه، وهي أسباب بعضها يتعلق بالوضع الاقتصادي والسياسي العام والبعض الآخر بالمزاج الشعبي والبعض الثالث ربما بالتحولات العامة التي أصابت الثقافة العالمية وانتشار التقانة والميديا بشكل وفر وسائط أخرى لتبادل المعلومة وانتشارها. لكن رغم ذلك لم يفقد الكتاب في أكثر الدول تقدماً واستخداماً لوسائط الميديا الجديدة دوره وأهميته ولم تقل انتاجات هذه الدول من الكتب ولا من طباعتها.
السؤال الآخر هو ماذا فعلنا من أجل تسهيل توفر الكتاب. وربما تكون وزارة الثقافة هي الجهة التي عليها الاجابة على هذا السؤال. فلم يوجد ثمة مشروع وطني أو قومي لتوفير الكتاب بسعر معقول للناس. وباستثناء بعض المحاولات المشكورة التي قامت بها الوزارة مبكراً من اجل توفير بعض الكتب الراسخة في الأدب الفلسطيني مثل اعادة طباعة «سكة الحجاز» و»البئر الأولى» ومجموعة خليل بيدس وغير ذلك، فلم يبذل جهد من اجل جعل الكتاب سلعة رائجة ومقبولة ويمكن الحصول عليها بالنسبة للمواطنين. والأصل أن هذه هي إحدى أهم مهام الوزارة التي يجب أن تسهل وصول المواطن للثقافة، سواء من خلال توفير الكتاب ودعمه أو من خلال بناء المسارح ودور السينما والمكتبات العامة وقصور او مراكز الثقافة ومشاريع الترجمة وما غير ذلك من مبادرات تجعل الثقافة شيئاً متوفراً وممكناً. بالطبع في السياق الطبيعي لابد من الاعتماد على رأس المال الوطني الذي يساهم في تفعيل الثقافة وفي توفرها للمواطنين. لكن يبدو في السياق الفلسطيني وفي ظل عدم توفر الاستقرار فإن رأس المال أكثر جبناً من ان يدفع فلساً واحداً في شيء لا يأتي إليه بمردود، بجانب أن رأس المال يجب أن يتوفر على قسط من الثقافة حتى يقوم بتقديرها. يجب استثناء القطان من هذا النقاش للدور الكبير الذي تقوم به المؤسسة الخيرية التي تحمل اسمه.
وفي ظل عجز المجتمع المدني الفلسطيني عن القيام بدوره لأن ثيمات الثقافة وموضوعاتها ليست من تلك الموضوعات التي تستجلب خزينة المانحين ولا هي من القضايا الساخنة التي تأتي بالمشاريع، وباستثناء بعض «الدكاكين» والمراكز التي هي «مخترات» لرؤسائها الذين لا يتغيرون، فإن المجتمع المدني لا يعرف أن ثمة قطاع اسمه قطاع الثقافة يجب التدخل فيه. طبعاً حال الاتحادات خاصة الكتاب لا يخفي على أحد.
في ظل هذا الوضع غير السوي فإن الحكومة مطلوب منها ان تتدخل لصالح تعزيز الفعل الثقافي والمنتج الثقافي ولا تكتفي بالقول إن مهمة الحكومة هي تنظيم النشاط فقط. قد يكون هذا صحيحاً في سياقات صحية، لكن في السياق الفلسطيني وفي ظل الحاجة لتطوير بناء الهوية الوطنية عبر تعزيز الثقافة الوطنية وفي ظل غياب الوعي الجمعي لضرورة ذلك من قبل رأس المال والمجتمع المحلي فإن المهمة تصبح مقدسة حتى تعود بسطة الكتب إلى الشارع.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية