صوّرت رواية "الكهف والوهم" للأديب المصري محمد جلال الصراع بين طبقات المجتمع المصري، نهاية عهد الملكية وبداية عهد الجمهورية في وسط القرن العشرين، وأحد ديناميات هذا الصراع في الرواية ظاهرة الاستزلام، والتي تناولتها الرواية من خلال رسم شخصية "إحسان بيك أبو المعاطي"، الذي برع في ممارسة الاستزلام للمسؤولين في العهدين الملكي والجمهوري، فأصبح خبيراً في علوم التملّق والتبعية، وضليعاً في فنون التسلّق والوصولية، فكان في عهد الملكية ملكياً أكثر من الملك، وفي عهد الجمهورية جمهورياً أكثر من الرئيس. وعندما طال عليه الأمد في عهد الجمهورية قسى عوده، فتسلّق شجرة "الاتحاد الاشتراكي العربي"، وهو حزب السلطة الحاكمة، المانحة والمانعة، فكان أبو المعاطي من المقربين لنخبة الثوار من الضباط الأحرار، وعندما أعطاهم الولاء أجزلوا له العطاء، حتى خُيّل له أنّه منهم وليس بمثلهم، فكان نموذجاً مثالياً لآفة الاستزلام في الجماعة البشرية.
آفة الاستزلام في أي جماعة بشرية هي أحد أشكال الفساد، ومصدر الفساد هو إساءة استخدام المسؤولية والوظيفة العمومية لتحقيق مكاسب شخصية، وسوء توظيف المقدرات والمال العام لجني مصالح خاصة، واستغلال النفوذ والسلطة الرسمية لجلب مغانم فردية.
ومحور الفساد عموده شبكة من العلاقات التبادلية النفعية بين طرفين: طرف قوي أو شُبِّهَ له أنه كذلك؛ لامتلاكه السلطة والمال والقرار، ولقدرته على منح العطايا والخدمات والامتيازات أو منعها، فيقوم باستغلال القوة والقدرة لاسترضاء الطرف الآخر الضعيف واستمالته، أو الذي أُشرِبَ في قلبه الضعف؛ لافتقاره إلى السلطة والمال والقرار، ولحاجته إلى العطايا والخدمات والامتيازات.
والتبادل يتم بين الزعيم الذي يُقدّم المساعدات المادية، والخدمات المعنوية، والامتيازات النفعية، وبين الأتباع الذين يقدمون التبعية والولاء والدعم للزعيم من أجل بسط سيطرته، وتثبيت مكانته، وتعزيز دوره، وترقية منصبه.
وفي علاقة الاستزلام داخل الجماعة البشرية ممثلة بمؤسسة حكومية، أو هيئة أهلية، أو حزب سياسي، أو حركة ثورية... يتم تبادل المنافع بروح انتهازية بين الأقوياء والضعفاء، فالأقوياء يقومون باستغلال الضعفاء بسحقهم كأرقام في ماكينة التدافع على السلطة، وبحرقهم كوقود في فرن الصراع على النفوذ.
أمّا الضعفاء فيقومون بالاحتيال على الأقوياء تقرّباً وابتزازاً؛ لينتزعوا فتات حقوقهم أو كلها أو فوقها... وفي خضم ذلك، يتقدم من صفوف الضعفاء الأتباع الأكثر استعداداً للاستزلام، فيدفعهم زعيمهم من الأقوياء إلى بناء "شلّة" منظمة داخل الجماعة وموازية لها؛ وتوسيع مشروع "الشلّة" السقيم الصغير ليأكل من جسم الجماعة السليم الكبير، وتوسيع مشروع "الشلّة" الضيّق الخاص على حساب مشروع الجماعة الواسع العام، وبناء كوخ "الشلّة" الخرب الضئيل مكان قصر الجماعة العامر الجليل، وريّ نبتة فكرة "الشلّة" الطفيلية الخبيثة المزروعة على جذور شجرة فكرة الجماعة الأصيلة الطيبة.
وفي غمرة هذه العلاقة الانتهازية غير الإنسانية واللاأخلاقية تكتمل عملية تدمير الجماعة والفرد، لا سيما في الحركات الثورية، وهو ما أشار إليه المناضل الفلسطيني خالد الحسن في كتابه "كي لا تكون القيادة استبداداً"، منتقداً ظاهرة الاستزلام في الثورة الفلسطينية، قائلاً: "إنَّ شيوع الاستزلام في التنظيم هو شيوع للعبودية المقنّعة على مستوى القيادة وما دونها، وهذا يعني حُكماً الفشل، لأنّ المستعبدين لا يقودون الأحرار، ولا ينجزون مهام الأحرار".
والفشل نابع من التدمير الذاتي للجماعة أو الثورة بتقديم الأكثر قدرة على الاستزلام للغير وليس الأكثر قدرة على الإنتاج والإبداع والتضحية والعطاء، فتُشلّ فاعلية الجماعة وتموت حيويتها ويقف تطورها.
والفشل نابع كذلك من تدمير الفرد أو الثائر بتفريغ الفرد من إنسانيته وكرامته وقيمه وثوريته، بعد أن حوّله الزعيم معولاً يهدم به أساس البناء، وسُلّماً يصعد به قمة السلطة، وجسراً يعبر عليه إلى المجد.
وقد تناول بعض المفكرين آفة الاستزلام بالشرح والتفسير، منهم المفكر اللبناني مصطفى حجازي في كتابه "التخلّف الاجتماعي.. مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور"، فسّر شيوع ظاهرة الاستزلام بعلاقة التسلط بين طرف يستخدم سلطته ونفوذه وتحكمه في المال العام بطريقة غير قانونية وغير أخلاقية، تجعل الآخرين المقهورين يضطرون إلى ممارسة الاستزلام لتحقيق مصالحهم.
وهذا ما أكد عليه المفكر الفلسطيني هشام شرابي في كتابه "النظام الأبوي وإشكالية تخلّف المجتمع العربي"، فردّ علاقة الاستزلام إلى ثنائي التسلّط والتبعية، المحكومة بنظام القهر والولاء، كآلية تحقق الربح لطرفَي الاستزلام – المُستزلِم والمستزلَم.. مع تفاوت كبير في الربح لمصلحة السيد المستزلم. وفي المضمون نفسه، كتب المفكر الإيراني علي شريعتي في كتابه "النباهة والاستحمار" بمعنى تسخير الإنسان لخدمة أهداف الآخرين "في خضوعه لغيره يخسر شيئاً لا يعرف ثمنه".
وكتب المفكر المصري سيد قطب في كتابه "في ظلال القرآن" عن مفهوم الاستخفاف القرآني الذي يتبع فيه السادة وسائل غير أخلاقية للتأثير في الأتباع لتوظيفهم لخدمتهم.
لإنهاء آفة الاستزلام في الجماعة والثورة... لا بد من العودة إلى صفات الزعامة والقيادة والمسؤولية الحقيقية كما حددها المفكر الفلسطيني الشهيد فتحي الشقاقي تحت عنوان "القيادة.. هداية للجماهير أو حمايتها، وإلاّ فعلى الجماهير أن تُعيد النظر"، ومنها: "القدرة على أن يكونوا شركاء درب ويُضرب بهم المثل في العناد والإصرار على مواصلة الكفاح والجهاد حتى النصر أو الانعتاق من أسر الطين... وإشاعة الأمل والثقة وروح الفداء بين الناس بدلاً من روح اليأس والهزيمة... وإشاعة البسمة في أوساط المحرومين وتبديد الكآبة عن قلوبهم بدلاً من سحق معنوياتهم".
وشدد على القيم والصفات نفسها القائد الفلسطيني المجاهد زياد النخالة في خطبة بعنوان "بالقرآن نرتقي وننتصر"، موضحاً أنَّ: "القائد الحقيقي هو الذي يخدم إخوانه ويحافظ عليهم ويحافظ على أفكارهم وأخلاقهم الإسلامية، وليس الذي يستخدم إخوانه وصلاحياته... يجب أن لا ننسى أننا جمعنا الناس لنقاتل بهم العدو، لا أن نسخرهم لخدمة أهوائنا، فنكون بذلك قد خسرناهم وخسرنا ديننا وخسرنا رسالتنا".
وهمسة أخيرة للأديب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي في كتابه "النظرات والعبرات"، تحت عنوان "العظمة" وجهها لمن يقوم بدور التابع في آفة الاستزلام، قال فيها: "كن زعيم الناس إنْ استطعت، فإنْ عجزت فكن زعيم نفسك، ولا تطلب العظمة عن طريق التشيع للعظماء أو التلصق بهم، أو مناصبتهم العداء والوقوف في وجههم، فإنْ فعلت كنت التابع الذليل وكانوا الزعماء الأعزاء".
المصدر : وكالة سوا
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية