يعد نتنياهو الإسرائيليين أن لا تسوية سياسية مع الفلسطينيين طوال فترة حكومته وإدارته، فهو غير مستعد للمساومة على القدس ، ولا يستطيع إزالة المستوطنات، ولن يتخلى عن الغور، ولذلك وعد الناخبين وطمأنهم أن لا تسوية ولا تنازل ولا انسحاب عن «أرض إسرائيل الكاملة»، ويزايد عليه وزير الحرب الليكودي موشيه يعلون ويقول: لا تسوية خلال جيل كامل، وهو محق في ذلك، فالجيل الحالي الذي يحكم نتائج صناديق الانتخابات ويقود الأغلبية البرلمانية أكثره من الصهاينة المتطرفين والعنصريين المشبعين بهواجس الخوف والقلق وبإغراءات التفوق في نفس الوقت، ولذلك فالطريق أمام الفلسطينيين مسدود نحو تحقيق اختراق لجدار الاحتلال، وعدم التمكن من زحزحته، أو خلخلة أساساته السياسية والأمنية والسكانية ودفعه نحو التراجع عن التوسع وابتلاع كامل أرض فلسطين، ناهيك عن أن المستوطنين المستعمرين الأجانب على أراضي الضفة الفلسطينية زاد عددهم وباتوا مؤثرين يُحسب حسابهم، في إفرازات صناديق الاقتراع، وفي قدرتهم على التأثير على السياسات الحكومية، فهناك خمسة وزراء يسكنون الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967.
وطريق المصالحة بين «فتح» و» حماس » يكاد يكون معقداً ومغلقاً، والفجوة بينهما تزداد اتساعاً، فرهان حركة حماس على الوساطة القطرية التركية للتوصل إلى هدنة طويلة الأجل مع تل أبيب مقابل: 1- فكفكة الحصار على قطاع غزة ، و2- تعزيز سلطة «حماس» على القطاع واستمراريته، فالأولوية لدى حركة حماس استمرار سلطتها وشرعية انقلابها، والإقرار بانفصالها عن الضفة مقابل التزامها بالهدنة والتهدئة وردع الفصائل الجهادية الأخرى، وعليه يتم قلب المعادلة السياسية بشكل تدريجي لتصبح غزة هي الدولة وهي العنوان وتكريس الكيانين الفلسطينيين واستمرار سلطتي الحكم الذاتي المحدود في غزة و رام الله وبمعزل عن القدس إلى أجل غير محدود، على طريقة بنغلادش وباكستان لشعب واحد وكيانين، وطريق العمل الدبلوماسي لمقاضاة المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي لدى المؤسسات الدولية محفوف بالتقلبات السياسية والتدخلات المؤثرة والمعيقات، فمنظمة التحرير وسلطتها الوطنية تتقدم خطوة وتتراجع خطوة، في عملية طويلة النفس غير مضمونة النتائج على المستوى الملموس، وليس لها نتائج إيجابية على الأرض، وعلى حياة الشعب الفلسطيني، فالاستيطان متواصل ويتعمق ويتسع تأثيره وتدميره لوحدة الأراضي الفلسطينية ويعمل على عزلها عن بعضها البعض، الضفة عن القدس وهما عن قطاع غزة، بل يجري تنفيذ مخطط لفصل الضفة الفلسطينية إلى ضفتين شمالية تشمل رام الله و نابلس وطولكرم وجنين وجنوبية تقتصر على الخليل و بيت لحم ، ويفصل بينهما شريط من المستوطنات يمتد من القدس حتى البحر الميت.
ورغم بسالة المقاومين المدنيين الفلسطينيين وكفاحهم الشعبي واستمرارية عملهم الميداني بشكل متقطع زمنياً ومكانياً، ولكن نشطاء حركتهم الشعبية يصطدمون بسياسات السلطة الفلسطينية المكبلة بالاتفاقات وبالإجراءات المعيقة التي تحول دون تصادمهم مع جيش الاحتلال وتمنع وصولهم نحو المستوطنين والمستوطنات، وهكذا نجد أن سلطة «حماس» في غزة تمنع المقاومة من أداء دورها ضد الاحتلال، ومثلها مثل سلطة رام الله، فالحال من بعضه، وكلاهما مكبل باتفاقات مباشرة وغير مباشرة مع عدوهم الإسرائيلي.
إذن، الأفق السياسي مغلق نحو زوال الاحتلال، ونحو إنهاء الانقسام، ونحو معاقبة المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي ومحاصرته وعزله، والحركة الشعبية الفلسطينية مقيدة وضعيفة القدرة على المبادرة الكفاحية سواء في قطاع غزة أو في الضفة الفلسطينية إلا ما ندر.
ومع ذلك فالتآكل الذاتي هو عنوان المرحلة وهو الطاغي على ما عداه من اهتمامات جوهرية، وبدلاً من تعزيز الجبهة الداخلية الفلسطينية وتوسيع قاعدة التحالف الوطني في إطار منظمة التحرير وسلطتها الوطنية نشهد العكس من ذلك بسبب الإخفاق وعدم القدرة على كسر الحلقات المعيقة، وما يشهده الشعب الفلسطيني مثل أفعال القطط التي تأكل أولادها عند الجوع، فهي غير قادرة على دفع الاحتلال نحو التراجع عن مخططاته وعن الاستيطان وعن تهويد القدس وأسرلة الغور، وعاجزة عن دفع المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي للإذعان للقرارات الدولية، وحتى عن تنفيذ الاتفاقات التدريجية الموقعة من قبل حكومة الاحتلال مع منظمة التحرير، وغير قادرة على تنفيذ اتفاقات المصالحة الوطنية، وغير قادرة على تطوير منظمة التحرير ومؤسساتها الهرمة، وسلطتها الوطنية عديمة السلطة، وبدلاً من توسيع قاعدة التحالف الوطني يتم تضييقه والمس به، وبدلاً من إجراء الانتخابات لتجديد الشرعية يتم تعطيل المؤسسات وشلها وهكذا، فالأمراض والتآكل والتراجع هي مفردات الوصف الموضوعي لما يجري دخلياً على المستوى الوطني الفلسطيني، وهي العلة وليس فقط وجود مشروع الاحتلال المتفوق.
صحيح أن المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي قوي متفوق على المشروع الوطني الديمقراطي الفلسطيني، ولكن وعلى الرغم من هذا التفوق، فقد صمد الشعب الفلسطيني على أرضه، في ظل مخططات التجويع والحصار وجعل الأرض الفلسطينية طاردة لشعبها، وحقق الفلسطينيون إنجازات تمت على حساب مكانة المشروع الاستعماري الإسرائيلي وهزيمته في الاتحاد البرلماني الدولي، ولدى «اليونسكو»، وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولدى لجان حقوق الإنسان الدولية المتعددة، وفي محكمة الجنايات الدولية، ما يؤكد الانحياز التدريجي من قبل المجتمع الدولي نحو عدالة القضية الفلسطينية وشرعية نضالها وصواب وقانونية مطالبها الثلاثة: المساواة في مناطق 48، والاستقلال في مناطق 67، والعودة للاجئين، فالمشكلة، إذن، ليست بتفوق الاحتلال وعدم إمكانية هزيمته، فهزيمته واردة ومؤكدة لأنه يتنافى مع المنطق ويتعارض مع العدالة، ولا ينسجم مع قيم حقوق الإنسان ويخل بالقوانين والقرارات الدولية، ولكن المشكلة ذاتية داخلية تفتقد للتماسك والوحدة بسبب الانقلاب والانقسام والفشل في التخلص منها وإنهائها، مثلما المشكلة في عدم القدرة على تطوير مؤسسات منظمة التحرير المترهلة، وسلطتها الوطنية المكبلة، وهو المطلوب معالجته ذاتياً وداخلياً ووطنياً.
h.faraneh@yahoo.com
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية