المشهد الذي خرج من غزة خلال اليومين الماضيين وتحديداً من ساحة الكتيبة غرب المدينة خلال احتفالات فتح بذكرى انطلاقتها الثامنة والخمسين يقول الكثير عن الحالة الوطنية وعن فتح تنظيم الجماهير وحركة الشعب.
فبعد خمسة عشر عاماً من الانقلاب وما قاد إليه من انقسام بغيض، ورغم كل ما تعرضت له فتح من ملاحقات وتعرض له كادرها من اعتقال وتعذيب وإغلاق مقرات إلا أنها عاماً وراء آخر تظل خيار الناس في الانتساب إلى قضيتهم الوطنية.
هذا سر من أسرار الديمومة كما تحب فتح أن تتغنى بنفسها. ديمومة الفكرة وديمومة النضال من أجلها.
فتح لم تكن فكرة عابرة بل حاجة فلسطينية نتجت عن واقع النكبة المرير والمشروع الإحلالي الكولونيالي الهادف لسرقة البلاد، لذا سيظل وجود فتح مربوطاً بإنجاز مشروع استعادة البلاد، فهي ليست كغيرها وجدت ضمن استقطاب عاطفي أو فكري أو معنوي لمنظومة تعابير سياسية أو أيديولوجية، لذلك فإن قوة وزخم فتح لم يخفتا طوال العقود الستة التي تلت انطلاقتها، بل ربما وجدت في نفسها المقدرة على التطور والتكيف بما يتلاءم مع التعبير الصحيح عن تلك الحاجة، الحاجة التي جعلت وجود فتح ضرورة. وعليه فإن كل خصوم فتح دائماً ما وجدوا أنفسهم في حيرة أمام القوة الهائلة لدى فتح لتقديم نفسها كصاحبة الإجابة الأوضح فيما يتعلق بتطورات السياق الوطني.
ذات مرة بعد انقلاب حماس مباشرة قال لنا المحقق إن فتح انتهت. لم يكن قد مضى على لحظة حزيران السوداء شهران ونصف الشهر وكان المحقق الذي لا بد أنه كان شارك في أحداث هذا الانقلاب منتشياً وهو يعذب أبناء فتح الذين هزمهم بوجهة نظره. قال بصرامة إن فتح انتهت واستخدم ألفاظاً قاسية وبذيئة في وصف الحركة بل ذهب للقول إن الله قد خلق الدنيا في ثلاثة أيام، وكي لا أخوض في ذلك كثيراً فقد قال إن يوم فتح قد انتهى وللأبد.
عموماً لسنوات كان ثمة يقين رغبوي إن جاز التعبير عند خصوم فتح السياسيين بأن يفيقوا من النوم فلا يجدوا «فتح»، الأمر الذي لم يحدث ولن يحدث.
مرة أخرى ليس لأن ثمة قوة سحرية في فتح وقدرات خارقة بل لأن ثمة حقيقة واقعية هي من جبلت الفكرة الفتحاوية بوصفها فكرة فلسطينية خالصة.
لقد برع آباء فتح حين صاغوا فكرتهم حين نسبوا أنفسهم لفلسطين. لنتذكر أن التنظيم الفلسطيني الوحيد الذي يحمل كلمة «وطن» أو مشتقاته «الوطني» في مكونات اسمه هو حركة فتح.
وربما هذه ليست صدفة فالآخرون يعرفون أنفسهم بالأيديولوجيا أو الهوية الدينية أو الفكرية، فقط فتح تنسب نفسها للوطن. وهذه ليست صدفة، فهي حركة التحرير الوطني الفلسطيني. هذا ليس امتيازاً لفتح فالوطن ملك للجميع لكنها انتباهة فتحاوية تعكس حقيقة الوعي الفتحاوي.
مشهد شبيه حدث في سجن النقب حين تم الإعلان عن انطلاق قطار عملية السلام في مدريد. ليس كل الفتحاويين وجدوا في عملية السلام مخرجاً صحيحاً لكن وجدنا أنفسنا جميعاً ندافع عن خيار القيادة لأن فتح أتاحت لنا أن نتناقش لكن تحت سقف القرار الفتحاوي الموحد.
جلسات تنظيمية وحوارات من أجل الدفاع عن موقف القيادة. جار لي ينتمي لتنظيم إسلامي قال لي ونحن نتمشى بجوار الخيمة إن فتح انتهت وإنه بعد عشرين سنة لن يكون هناك فتح.
وأراد أن نتراهن. لم أكن قد بلغت العشرين بعد في ذلك الوقت، فقلت: خليها خمساً وعشرين، فرد منتشياً: تمام. أظنه نسي الأمر. جئته بعد مرور السنوات وقلت له إذا ما كان يذكر الرهان الذي عقدناه قبل ربع قرن في ظهيرة أحد أيام كانون الثاني.
مرت لحظات عصيبة على فتح وتعرضت لانتكاسات كثيرة كان يمكن لها أن تقضي عليها لكن سر الخلطة الفتحاوية حافظ عليها ونبالة القيم والأفكار التي حملتها جعلت من مواجهتها لكل تلك اللحظات القاسية أمراً فطرياً.
بعد أربعين يوماً من حديث المحقق العام 2007 خرجت الآلاف المؤلفة في ذكرى استشهاد ياسر عرفات ليقولوا إنهم مع فكرة فتح التي استشهد دونها ياسر عرفات ورفاق دربه.
في ذلك الوقت كان توزيع الصور والرايات والأعلام أمراً محفوفاً بالمخاطرة.
وكان مجرد العمل جهاراً يقود إلى مسالخ التحقيق والتعذيب. ومع ذلك فإن جماهير فتح الوفية لفتح خرجت عن بكرة أبيها.
مشهد آخر شبيه كان في انطلاقة السرايا بعد ذلك بأعوام حتى كاد المرء لا يصدق أن هناك من بقي في بيته ولم يشارك في المهرجان المليوني.
فتح كما قال عبد الناصر وجدت لتبقي ولتنتصر، لأن إرادة الشعب لا يمكن هزيمتها وفتح هي التعبير الشعبي والبسيط عن تلك الإرادة.
الناس ليسوا بحاجة لمن يقدم لهم أفكاراً كبيرة مغلفة بكوبونة ومساعدة بل بحاجة لمن يقول لهم إنهم يمكن أن يواصلوا الصمود من أجل تحقيق الهدف الأساس وإبطال هدف العدو في إنهاء القضية. هكذا كانت فتح الأبسط والأوضح والأكثر إقناعاً.
ربما هذه فرصة جديدة للبحث في سبل تصويب الحالة الوطنية والذهاب إلى حوار وطني شامل وحقيقي على قاعدة الشراكة والبحث عن المستقبل وتأمين المصالح الوطنية التي تصون حقوقنا كاملة.
القصة ليست قصة من ينتصر ومن يخسر لأن الانقسام هو الرابح الوحيدة فيما وحدتنا الوطنية هي الضحية الحقيقية لكل هذا الخلاف.
وربما أن الحقيقة أن فتح قدمت الكثير وتعالت على جراحها في سبيل إنجاز المصالحة ونجحت في كل مرة في أن تقدم نموذجاً للتضحية بالمصالح الفئوية والحزبية من أجل المصلحة العامة وهذا كان دائماً من منطلق أنها راعية الحقوق الوطنية وحاميتها والتعبير عن رغبة الجماهير وتوجهاتها.
وعليه فإن النظر للأمام يجب أن يمتلك الكثير من الجرأة في تجاوز هنات الماضي وآلامه.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية