الموقف الإسرائيلي التقليدي من الاتفاق النووي الدولي (5+1) مع إيران هو أن هذا الاتفاق سيّئ جداً لإسرائيل؛ لأنه لا توجد ثقة بالالتزام الإيراني بوقف البرنامج النووي العسكري، ولأنه من جانب آخر لا يتضمن تقييد تطوير إيران للصواريخ الباليستية الدقيقة والبعيدة المدى، القادرة على الوصول إلى إسرائيل ومناطق أخرى في مختلف أرجاء العالم. لدرجة أن إسرائيل هي التي ضغطت بشدة على إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإلغاء الاتفاق مع إيران ومحاولة فرض الأجندة الإسرائيلية، إما باتفاق يتوافق مع مصالح إسرائيل واشتراطاتها، وإما باللجوء للقوة لتدمير المنشآت النووية الإيرانية وتعطيل البرنامج الإيراني لسنوات أو عقود طويلة، على غرار قصف المفاعل النووي العراقي في العام 1981.
والحكومة الإسرائيلية المنتهية ولايتها برئاسة يائير لابيد فعلت كل ما في وسعها لمنع إدارة جو بايدن من العودة للاتفاق النووي مع إيران. بل إن لابيد، في اتصال هاتفي مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 22/8/2022، أكد أن "إسرائيل لن تكون ملتزمة بمثل هذا الاتفاق"، وأنها "ستواصل القيام بكل شيء من أجل منع إيران من التوصل إلى قدرات نووية". وهذا على خلفية الحديث بقرب التوصل إلى اتفاق في ذلك الوقت. وقد أوضحت إسرائيل أنها مستعدة للقيام بعمل عسكري إذا تأكدت أن إيران تقترب من صنع القنبلة النووية. وفي الواقع تدير إسرائيل حرباً خفية ضد البرنامج النووي الإيراني باستهداف العلماء الإيرانيين والمنشآت النووية، وهي حرب تخريبية من خلال عملائها.
ولكن في هذه الأيام تسمع نغمة مختلفة لدى أوساط أمنية إسرائيلية رفيعة ترى في انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي عام 2018 خطأ إستراتيجياً، لأن واشنطن وتل أبيب لم تطرحا خطة بديلة، كما أن التعويل على إسقاط النظام الإيراني من خلال العقوبات لم يكن صحيحاً، حسب صحيفة "هآرتس".
والتغيير في الموقف الإسرائيلي على ما يبدو مرتبط بالأحداث الدولية المتسارعة، خاصة ما ينجم من تأثيرات وانعكاسات للحرب الروسية - الأوكرانية. ويظهر أن القلق الإسرائيلي الذي يقابله قلق أميركي مماثل هو من مستوى التعاون العسكري الإيراني - الروسي، والمعلومات عن صفقات كبيرة لتزويد روسيا بالطائرات المسيّرة الانتحارية الإيرانية، وما يمكن أن تحصل عليه إيران بالمقابل عدا الأموال. فروسيا تزود إيران بصواريخ مضادة للطائرات وطائرات حديثة مثل سيخوي 35 وغيرها، ولكن الأخطر إمكانية تزويد إيران بالصواريخ الفرط صوتية أو مساعدتها في امتلاك مثل هذه التكنولوجيا، وهذا تهديد خطير من وجهة النظر الإسرائيلية. وتخشى بعض الأوساط الأمنية من أن هذا التعاون يزداد باطّراد، ويمكن أن ينتقل إلى مستوى التحالف العسكري.
والحرب التي تشنها إسرائيل ضد التموضع الإيراني في سورية لا تمنع نقل أسلحة متطورة إلى هناك لتهدد التجمعات والمواقع الإسرائيلية الحيوية، وتغيّر موازين القوى في المنطقة. ويبدو أن إدارة الرئيس بايدن لا تساعد إسرائيل في حربها ضد الوجود العسكري الإيراني في سورية؛ لأنه في نهاية المطاف تستطيع إيران تهريب كميات كبيرة من الأسلحة إلى سورية، وأيضاً إنشاء مصانع سرية بمناطق مختلفة في سورية ولبنان.
لذا يمكن أن تظهر اليوم أفكار جديدة لدى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تقول، إن الاتفاق النووي مع إيران ربما يجعلها تبتعد عن التعاون العسكري مع روسيا، وهو ما ينظر إليه الغرب باعتباره مشاركة إيرانية بالحرب بشكل مناقض لرغبة وإرادة الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين وفي حلف "الناتو". فمقابل رفع الحظر عن الاقتصاد الإيراني وتحرير الأموال، و فتح الطريق أمام إنتاج وتصدير النفط والغاز - وهو ما تحتاجه أوروبا بصورة ماسة اليوم - يمكن أن تجبر إيران على تقليل حجم تعاونها مع روسيا. إذاً الصفقة المفضلة هي اتفاق نووي مع إيران مقابل تقليص التهديد لإسرائيل، وتغيير قواعد اللعبة في منطقة الشرق الأوسط.
وهناك مسألة ربما تكون دافعاً لإسرائيل والولايات المتحدة من أجل دعم العودة للاتفاق النووي، وهي أن إيران بدأت تجري حوارات مع دول الخليج وفي مقدمتها السعودية، ويبدو أن الأمور ذاهبة باتجاه التهدئة، وبالتالي فاللعب على الصراع في منطقة الخليج قد لا يكون مفيداً في المستقبل القريب، خاصة أن السعودية بدأت تمارس سياسة مستقلة عن واشنطن في موضوع الطاقة وتتعاون مع روسيا، ويمكن للتعاون بين السعودية وكل من روسيا والصين أن يساهم في تحسين العلاقة مع إيران.
والسؤال هنا: هل ستعود الولايات المتحدة قريباً للاتفاق أم أن ما نقل عن بايدن بأن المفاوضات قد ماتت هو الموقف الأميركي الراهن ولا تغيير عليه؟ ثم هل توافق الحكومة الإسرائيلية الجديدة على تبني تقدير وموقف المؤسسة الأمنية بشأن تفضيل الاتفاق على الخيارات الأخرى أم سيكون لها موقف آخر أكثر تشدداً؟
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية