في ذكرى انطلاقة «فتح» يظل التفكير في سبب ريادة الحركة للمشروع الوطني ونجاحها في قيادة الحالة الوطنية لقرابة ستة عقود من الزمن حاضراً وشاهداً على قوة الفكرة الفتحاوية وصلابة وتميز «فتح».
«فتح» التي قالت، إننا لسنا لاجئين بل شعب لنا بلاد نريد أن نعود إليها ونستعيدها، ظلت رغم تقلبات الزمن وتكتيك البرامج ومتطلبات المراحل الأكثر تمسكاً بأهدافها الأساسية رغم ما قد يبدو من ليونة في مرات كثيرة على مواقفها، لكنها الليونة التي تمسك بالصلب فتزيده صلابة وتحميه من الانكسار.
جوهر ذلك أن «فتح» هي الأكثر مقدرة على توقع المرحلة والتصرف وفق المتغيرات الجديدة حفاظاً على القضية الوطنية. وربما طبيعة «فتح» غير الأيديولوجية وغير المرتبطة بالقوى الإقليمية وحقيقة أنها ليست امتداداً لأي شيء خارج فلسطين على مستوى الفكر والوعي والممارسة فإنها الأكثر جرأة في تبني المواقف التي تعبر عن تلك المصالح التي تصون الحقوق الوطنية وتحافظ على مكتسبات شعبنا.
في أكثر من مرحلة تاريخية، نجحت «فتح» في قراءة المعطيات والتحولات وفهم ما يجري حولنا وطورت أدوات نضالية تصلح لتجاوز الخطر المحيق بشعبنا وبقضيته. وفي مرات كثيرة، كان الكثيرون وفي بعض الأحيان كل التنظيمات يختلفون مع «فتح» ومع توجهاتها واستجاباتها للتحولات التي تضرب المنطقة لكنهم ما يلبثون بعد حين يلحقون بـ»فتح» وبتوجهات «فتح». وقراءة سريعة للتاريخ الفلسطيني المعاصر تكشف لنا الكثير من تلك اللحظات التي كان الكل يصطف فيها ضد «فتح» ويقاتل ليس للإطاحة بالمشروع الوطني الذي تقوده «فتح» بل أيضاً بـ»فتح» وبريادتها وقيادتها للحركة الوطنية وفي بعض اللحظات كان يصل الأمر لحد التخوين والتشكيك والاستعداد للمواجهة.
بل إن البعض ذهب حد الانقلاب على السلطة التي كان لـ»فتح» سبق تأسيسها كنواة للكيانية الفلسطينية المفقودة والتي أسس غيابها لقيام المشروع الصهيوني، ولكن بعد فترة ليست بالطويلة وجدوا أنفسهم يعيدون إنتاج أدوات «فتح» النضالية والكفاحية ويتبنونها بل بات الدفاع عما قالت به «فتح» قبل ذلك مقدساً.
ربما ستكون استعادة تجربة السلطة الوطنية مهماً في هذا السياق. تذكرون حين ذهبت «فتح» لتأسيس أول برلمان فلسطيني حقيقي منتخب بعد إقامة السلطة الوطنية الفلسطينية قاطعت التنظيمات الكبرى الانتخابات. جماعة اليمين الديني قالت، إن الانتخابات حرام شرعاً وآثم من يشارك فيها ترشحاً أو تصويتاً، وجماعة اليسار الوطني اتهموا السلطة بأنها كيان مسخ نجم عن اتفاق خيانة لا يمكن المشاركة لا في هذا الكيان ولا في مؤسساته لذلك فإن المشاركة في الانتخابات جريمة وطنية لا تغتفر تصل حد الخيانة. ولم يمض عقد من الزمن حتى وجدوا أنفسهم يقاتلون من أجل المشاركة في تلك الانتخابات. صارت الانتخابات حلالا والمشاركة فيها واجبا شرعيا يأثم من لا يدلي بصوته فيها، بل إن الهيمنة على البرلمان الذي كان «رجساً» من عمل الشيطان بات هدفاً جهادياً لا بد من تحقيقه بكل الوسائل، وصار تشكيل الحكومة التي كانت توصف بأنها إدارة مدنية بصورة مختلفة مهمة جهادية من أجل حماية مصالح الأمة. كما صارت بالنسبة لليسار المعارض جزءاً من معارضته من أجل حماية الحقوق الوطنية التي سيعمل أصحاب أوسلو على إهدارها، وكأن تلك المؤسسات التي يريدون الدخول فيها مثل المجلس التشريعي ليست من إنجازات أوسلو الخائنة. الغريب أن كل الأطروحات السابقة ضد «فتح» وضد مشروعها الذي صار هدفاً للمعارضين من اليمين ومن اليسار تم وضعها جانباً ولم يتم توظيفها في الخطاب الفصائلي الذي تنازع السلطة.
هذا سر من أسرار قوة «فتح» واستمرار حضورها وبقائها كتنظيم أول في الساحة الوطنية. ثمة ثقة خاصة يوليها الناس لـ»فتح» رغم كل ما يرونه في «فتح» من مشاكل وأزمات وخيبات ربما، إلا أنهم يظلون يعتقدون أن «فتح» الأقدر والأحرص. وهي الأقدر والأحرص. قد يغضب الناس من «فتح» وقد ينتقدونها ويسبون عليها وقد لا ينتخبونها في الانتخابات سواء النقابات أو الهيئات الوطنية لكنهم سرعان ما يدركون أن «فتح» الأقدر على حماية مصالحهم والأقدر على قيادة مشروعهم التحرري. هذه الثقة التي اكتسبتها «فتح» ليس فقط من تاريخها الحافل بالعطاء والتضحيات والبطولات التي يظل لـ»فتح» سبق فيها حتى اللحظة بل أيضاً بفهم «فتح» ووعيها لطبيعة المرحلة التي تمر بها القضية الوطنية.
«فتح» هي حارس البيارة الذي يدرك الجميع أنه يراقب ويتابع ويقلق ويدافع دون أن يلتفت كثيراً لكل ما يجري حوله من سب ولغط ونقد ونقاش. ومع ذلك فإن الجميع في مرات يذهب بعيداً في النقد والسب واللغط لأنهم يدركون أن هذا الحارس لن يتراجع عن مهمته في حماية البيارة. مع «فتح» استمرت القضية التي وضعتها الحركة على الطاولة بعد أن كانت ورقة في ملفات الأنظمة العربية، ومع «فتح» برزت الهوية الوطنية وصار الفلسطيني مقاتلاً بعد أن كان الآخرون يزعمون القتال نيابة عنه وقد يسمحون له أن يكون جزءاً من مزاعمهم، ومع «فتح» صارت القضية قضية شعب يريد استعادة بلاده بعد أن كانت قضية لاجئ مشرد يريد «كرت» التموين والخيمة.
لذلك فإن «فتح» وحدها التي يشعر الكل الفلسطيني العادي غير المؤدلج وغير المتعصب لفكرة إلا فلسطين بأنها تنظيمهم. من هنا فإن معين «فتح» الجماهيري لا ينضب. ولو أراد الناس محاسبة «فتح» على كل أخطائها فإنهم يدركون أن حسناتها تفوق بمئات المرات تلك الأخطاء التي تقع فيها والتي هي من طبيعة الطريق وتفاصيل النضال اليومي. هل تتخيلون أن «فتح» وحدها استمرت رغم كل العواصف التي أتت على المنطقة والتي قادت إلى انهيار دول وأنظمة ومنظومات فكرية متكاملة. «فتح» ظلت لأنها لم تعرف إلا فلسطين ولا تريد أن تعرف غيرها، لذلك ظلت وفية لقضية شعبها وظل شعبها وفياً لها.
المصدر : وكالة سوا
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية