إذا لم تخنِّي الذاكرة، وفي سياق حديثٍ مع الباحث والكاتب الصديق أنطوان شلحت، سألته عن رأيه حول العوامل التي يراها «مؤثّرة وفاعلة» في تغيير الوعي الإسرائيلي حيال الصراع بين الشعب الفلسطيني وبين إسرائيل، وفيما إذا كان لدينا ما نراهن عليه على هذا الصعيد مستقبلاً؟
أنه قال: لا يوجد الكثير ممّا يمكن المراهنة عليه، ولن يتغير الوعي الإسرائيلي إلّا بالصدمة، بل وبالصدمات بالأحرى.
تذكّرت هذا النقاش ونحن جميعاً نراقب ونتابع «صدمة» الوعي الإسرائيلي في «مونديال قطر 2022»، جرّاء ما سمِعَتْه، وما صوّرَتْه وسائل الإعلام الإسرائيلية من ردود أفعال الجمهور القطري والعربي، وكذلك الجمهور من كل بقاع الأرض، وكيف أن فلسطين في هذا «المونديال» ربحت معركة سياسية وإعلامية فاصلة، وكيف خسرت إسرائيل حرباً بكاملها، وهُزمت فيها هزيمة ساحقة وماحقة.
لا أحد يعرف «طبيعة» الوعي الإسرائيلي كما يعرفه شعبنا في «الداخل»، ولا أحد يعرف «الوعي العربي» كما يعرفه الشعب الفلسطيني. شعبنا في «الداخل» يعرف عن كثبٍ كل صغيرة وكبيرة في الوعي الإسرائيلي، وهو على مدار أكثر من سبعة عقود يتابع أدقّ تفاصيل السلوك اليومي «للمجتمع اليهودي»، ويلمس كل أبعاد هذا الوعي، في بواعثه ومسبّباته، وفي صعوده وهبوطه، وفي «نشوته» وانحداره، وفي مكنوناته وتجلّياته، وفي «توقّعاته» وافتراضاته.
وهو يعرف أكثر عن هذا الوعي لجهة الاستعلائية فيه، ولجهة العنصرية التي تظلّله من كل جانب، ولجهة «الاستعداد» الكامن فيه لمنطق «القوّة» و»العنف» وحتى «كراهية» الآخر، واعتبار «استعباد» هذا الآخر «كامتياز طبيعي» أصيل وقديم ومستمرّ!
استطاعت الحركة الصهيونية في إطار تحوّلات كبرى، بعد أن انتقلت ووصلت وأوصلت السياسة إلى مصاف الدين والتديين، أن تغيّر في الوعي الإسرائيلي، وأن تحقنه بالكثير من «إبر التخدير» وأن «تزيّن» له الواقع، وتزيّف هذا الوعي والوصول به إلى درجات عالية من «الاطمئنان» النفسي، بحيث اعتقدت غالبية كبيرة بأن إسرائيل باتت مقبولة من الشعوب العربية، وهي مقبولة أصلاً، من قبل شعوب العالم، وأن القضية الفلسطينية أصبحت وراء الشعب الإسرائيلي، وأن «لا حاجة» للتعامل مع الشعب الفلسطيني سوى بإرغامه على التسليم بهذا «الواقع» الجديد!
لم يبقَ أحد في إسرائيل من «اليسار» و»الوسط» و»اليمين» بكل أنواع هذا «اليمين» إلّا واعتقد أن العالم العربي كلّه بات على أبواب مرحلة تاريخية جديدة عنوانها أن إسرائيل قد «تكرّست» في الواقع الإقليمي كحالةٍ مقبولة، بل ومُرحَّب بها إلى درجة أن الشعوب العربية تنتظر اليوم الذي تعبّر من خلاله عن فرحتها بهذا القبول والتقبل.
أمّا نحن فقد كنّا على قناعةٍ معاكسة تماماً لهذا الزيف، وكنّا نعرف أنّ العالم كلّه يقف إلى جانب حقوقنا، وأنه ضاق ذرعاً بإسرائيل وبطشها وجرائمها، وأن الشعوب العربية لم تكن مع شعبنا في يومٍ من الأيّام كما هي اليوم، بل وأن هذه الشعوب تستشيط غضباً على أنظمتها التي حاولت أن «تبلّعها» ما يسمّى «التطبيع» العربي مع إسرائيل.
نحن أبناء الشعب الفلسطيني نعرف شعوبنا العربية، ونعرف عمق أصالتها، ونعرف صدق انتمائها، ونعرف حجم الغضب الذي بداخلها على حالة الهوان الرسمية، وعلى الذلّ والإذلال الذي ينطوي عليه هذا «التطبيع»، ولهذا فقد بقينا عند حُسن ظنّنا بشعوب أمّتنا، وعند حُسن الظنّ بشعوب العالم ومواقفها الإنسانية.
لقد تمّ تزييف الوعي الإسرائيلي، إضافة إلى تلويثه على مدى أكثر من سبعة عقود، وخصوصاً في العقود الثلاثة الأخيرة إلى درجة أن «أثمر» هذا التزييف، ونضج وتبلور، وبدأ يتجسّد فكرياً وأخلاقياً في منظومات كاملة ومتكاملة من العنصرية السافرة، ومن «الثقافة» التي تستحضر الأسطورة والغيبيات الدينية لبناء مستقبل «دولة ديمقراطية»...!
وتحوّلت كل هذه المنظومات وتجسّدت سياسياً في حلف عنصري وفاشي أصبح يتغنّى بالعنف والميليشيات المسلّحة والإرهاب كأسلوب واحد ووحيد لإدارة سياسة «الدولة» الجديدة.
لم تنضج بالكامل معالم الصدمة التي تعرّض لها الوعي الإسرائيلي في «مونديال قطر 2022»، ولم ينكشف بعد كامل الزيف الذي كرّسته القوى الدينية القومية المتطرفة ولم تنفضح بعد كلّ الأكاذيب التي عاش عليها هذا المجتمع اليهودي في إسرائيل، لأن الصدمات ستأتي تباعاً.
لم يتوقّع «الإسرائيلي» حتى في أحلامه وأسوأ «كوابيسه» أنه سيكون محاصراً ومنبوذاً بهذه الطريقة، وإلى هذه الدرجة، خصوصاً وأن وسائل الإعلام الإسرائيلية كانت ذاهبة إلى «هناك» وفي ذهنها أنّ الأمور «طبيعية»، وأن القبول والتقبُّل للإسرائيلي «هناك» إن لم يكن « حماس ياً» فسيكون عادياً وطبيعياً طالما أن أمور «التطبيع تسير بصورةٍ طبيعية»!
كانت الصدمة مُدوّية بكلّ المعاني وبكلّ المقاييس.
أعلامٌ فلسطينية في كلّ مكان، الهتافات لفلسطين بعشرات آلاف الحناجر، المغاربة يهتفون بأعلى صوتهم، والتوانسة يُوزّعون الأعلام الفلسطينية على كلّ قادمٍ إلى قطر، والقطريون ينافسون بعضهم بعضاً لرفع أعلام فلسطين في كلّ بقعة من الأرض القطرية، وهتافاتهم في المباراة الأخيرة لفريقهم زلزلت أرض الملعب، والسعوديون يرقصون فرحاً نصرة لفلسطين.
هناك عشرات، بل مئات الصور التي لم يستطع الإعلام الإسرائيلي، ولا العربي أن يعكسها عن هول الصدمة التي عايشَتها وسائل الإعلام الإسرائيلية «هناك».
لو كان المجتمع اليهودي الإسرائيلي ما زال يملك الحساسية الأخلاقية التي تملكها بعض «المجتمعات» الديمقراطية لثار في وجه كل هؤلاء الذين أشبعوه كذباً وخداعاً حول «ترويض» الشعوب العربية، وحول «سعادتها» الغامرة بإسرائيل.
الصدمات القادمة لن تكون أقلّ دوياً من صدمة «المونديال».
لا نعرف من الآن ــ مع أننا نستطيع أن نخمّن قليلاً ــ كيف سيكون عليه حال الوعي الإسرائيلي عندما «يكتشف» هذا الوعي أن «إسرائيل الكبرى» ستحوّل «الدولة الإسرائيلية» بأكملها إلى حالة منبوذة على كلّ المستويات، وعندما يطبق التحالف الفاشي على خناق ما تبقّى من شكليات «الديمقراطية» في إسرائيل؟
ولا نعرف منذ الآن بالضبط كيف سيفسّر لنا بعض من تبقّى في حطام «اليسار» و»الوسط» فيها ماهية هذه «الديمقراطية» التي أصبحت «الكاهانية» الجديدة هي الآمر الناهي الأوّل في نظامها السياسي؟!
وطبعا لا نعرف ماذا سيكون عليه «الوعي الإسرائيلي» عندما يكتشف هذا الوعي أن حالات العجز والتهالك في الجانب الفلسطيني لن تعمّر طويلاً لأنّ أجيالاً جديدة ستشقّ طرقاً جديدة، ونهجاً جديداً في مواجهة الاحتلال، وفي مواجهة العنصرية، وفي مواجهة الفاشية؟
وكيف سيكون حال هذا الوعي عندما تجابه إسرائيل شعباً كاملاً على كامل الاستعداد للمواجهة الملحمية بكل ما يمتلك من وسائل وإمكانيات، مدعوماً من شعوب أمّته العربية، ومن أحرار العالم دون استثناء؟
الصدمات قادمة، وقريبة وأكبر بكثير من صدمة «المونديال».
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية