القائد ياسر عرفات، وهو بلا أدنى شك رمز نضالي فلسطيني، يملك من القدرات ما يؤهله لأن يكون أحد أبطال تاريخنا الفلسطيني، لذلك فإن احتفالنا به أمر محبوب ومطلوب شأن كل القادة وأبطال التاريخ الفلسطيني، غير أن استعمال هذه الاحتفالات لتأدية وظائف شخصية أمر ينبغي أن نعيد النظر فيه، وبخاصة حين تُنظَّم هذه الاحتفالات لتأدية أهداف بعيدة عن جوهر المناسبات.
الاحتفالات يجب أن تكون غايتها إعادة بعث إنجازات هذه الشخصيات لغرض إفادة الجيل الجديد، وجعل أفراده يحققون طموحهم بالاستعانة بهذه الإنجازات! لذلك فإن عقد الندوات المحكمة، وإنتاج العسل الفكري من سيرهم مطلب رئيس، كذلك فإن إدماج سير هؤلاء الأبطال في مناهج الدراسة هو المطلوب تحقيقه!
اعتاد كثيرون أن يُطلقوا كلمة (السلفية) على أتباع السلفية الدينية فقط، ولكنني استعملت تعبير دعاة السلفية السياسية لوصف حالة معظم سياسيي العرب وفلسطين، هذه السلفية السياسية ظاهرة خطيرة على مستقبلنا، لأنها تغرس في الأجيال الصاعدة نظرية رجعية وهي: التضحية بالمستقبل من أجل الماضي، يبدو ذلك جليَّا في احتفالاتنا بذكرى قادتنا وزعمائنا.
دعاة السلفية السياسية مُضلِّلون لا يكترثون بكل ما سبق، بل يعمدون إلى تغييب الاحتفال الحقيقي بالأبطال، فيقومون بصناعة مستحضرات خطابية تقليدية بائدة، تصب في مجرى نهر التضليل الجماهيري، ويغطون على جوهر المناسبة بواسطة استخدام أسلوب تضليل الحاضرين، فيجلبون المنشدين والفرق الموسيقية لتعزف ألحانهم ومواهبهم فوق قبور وأجداث أبطال التاريخ الأوفياء، هؤلاء السلفيون السياسيون، هم في الحقيقة قاصرون عن استحداث الإبداعات الجديدة وتطوير أحزابهم، والرقي بمستوى أعضائهم ثقافياً ومعرفياً، هم يظنون أنهم نجحوا في تضليل الجماهير، هم في الغالب ينتشون على وقع تهليل الجماهير وتصفيقها، يظنون أنهم نجحوا في استقطابها، وامتلاك زمامها، ولكنهم ينسون أن الجماهير تعود بسرعة إلى حالة الوعي فتكتشف بعد فترة قصيرة تضليل دعاة السلفية السياسية، وبخاصة عندما تزول المنافع والمصالح!
يعمد هؤلاء السلفيون السياسيون إلى إبراز كفاءتهم بواسطة أسلوب تضليلي آخر رخيص يتمثل في قدرتهم على تجنيد الحشود، يقيسون نجاحهم الرئيس بالعدد الكمي فقط!
إنَّ الاحتفالات بالأحداث التاريخية لا ينبغي أن تكون غايتها إعادة الزمن إلى الوراء، وإسباغ القدس ية على الزعماء السياسيين الراحلين، وتصوير الحاضر والمستقبل مستحيلاً رابعاً بعد؛ الغول، والعنقاء، والخل الوفي، دعاة السلفية السياسية ينشرون من حيث لا يُدركون مبدأ خطيراً وهو، نحن عاجزون في مجال الإبداع والتفوق والتجديد.
هؤلاء يدفعون الشباب إلى أن يعيشوا في أحلامهم، يقنعونهم بأن أحلامهم لا يمكن تحقيقها إلا بحدوث معجزة جديدة، وهي ولادة قائد أسطوري، وليس بأن يُصبحوا هم القادة العظام.
معظم هؤلاء السلفيين ينسَونَ أنهم شوَّهوا صور الزعماء التاريخيين في حياتهم، ونعتوهم بأبشع الصفات، وتخلوا عنهم، والأبشع أنهم كانوا يتمنَوْن الخلاص منهم وهم أحياء، وما إن تغيبهم القبور حتى يُجلسوهم على عرش البطولات والتضحيات، وسوف أظلُّ أذكر أحدهم في ستينيات القرن الماضي وهو يصف الرئيس جمال عبد الناصر بأنه فاسدٌ، وما إن غيَّبه القبرُ حتى غدا عنده قدِّيساً سياسياً! وكلما مرَّ زمن طويل على غياب القادة والزعماء تزداد قدسيتُهم، وتُؤلف بطولاتٌ جديدة على قبورهم، هكذا تساهم السلفية السياسية في تشويه التاريخ وتزييف أحداثه!
هناك هدف آخر يرمي دعاة السلفية السياسية إلى تحقيقه، وهو إشارة لئيمة إلى زعمائهم الحاليين بإشعارهم أنهم مخلصون أوفياء لزعمائهم الحاليين، وأنهم سيقيمون لهم احتفالاً مماثلاً بعد أن يغيبهم الموتُ!
إن دعاة السلفية السياسية لا يكتفون بكل ما سبق، فهم بارعون في نسج قصص الراحلين، هم يزعمون بأنهم كانوا رفاق القادة التاريخيين الأبطال، وأنهم كانوا من المخلصين والمستشارين، وهم يغمزون من طرفٍ خفي بأنهم كانوا (يقودون) هؤلاء الزعماء، ويرشدونهم إلى الطريق الصحيح، أي أنهم أكثر وعياً وتأثيراً من هؤلاء القادة!
أخيراً، بنت الأممُ المتقدمة فوق قبور زعمائها التاريخيين مناراتٍ تحذيرية، وليس منصاتٍ لنيل الحظوة الشخصية والمكاسب الوظيفية والمالية، حتى تُجنِّب الجيلَ الجديد مزالق الطريق، وشيدت الأمم المتقدمة مراكز دراسات للاستفادة من تجارب الشعوب، وأسست مصانع تحويلية من تراث السلف كمادة خام لإنتاج عسلٍ صحي تشربه الأجيالُ الصاعدة فتقوى، كذلك وظفوا تراثهم التاريخي في إنتاج نظريات جديدة تُلائم العصر، وتستشرف المستقبل!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية