ربما يصعب تخيل التاريخ الفلسطيني دون ياسر عرفات وحضوره الطاغي في مفاصل الحياة الفلسطينية.
وربما لا يكاد يمر يوم دون أن ينطق فلسطيني أو أكثر اسم ياسر عرفات في جلسة عائلية أو مع الأصدقاء، وأيضاً لا يمكن تخيل يوم مدرسي أو جامعي في فلسطين لا يكون عرفات فيه حاضراً في درس عن التاريخ أو الجغرافية أو السياسة أو في نقاش في غرفة المعلمين أو في فسحة الوقت بين الدروس.
شيء في عرفات له علاقة بتاريخه وقوة فعله في التاريخ الوطني يجعل منه ضرورة في الحياة الفلسطينية اليومية. حتى من ما زالوا يرون في أنفسهم خصوماً له لا يستطيعون الهروب من هذا الحضور ولا يستطيعون أن يزيلوا عرفات من متن حديثهم اليومي.
فخصوم عرفات أو من يصرون على أنهم خصومه من بني جلدته لا يستطيعون تجاهل حضوره في حياتهم حتى لو لم يرغبوا بذلك. هل هم مكرهون؟
بالطبع لا فحضوره شيء من تفاصيل فلسطين، فمثلما فيها القدس ويافا وحيفا وعكا وصفد والمجدل وبئر السبع والخليل ومثلما فيها صحراء وسهل وجبل ومثلما فيها الجرمق وعيبال، أيضاً فيها ياسر عرفات. وكما هو جرمقنا وعيبالنا وهي قدسنا ويافتنا ونقبنا فهو عرفاتنا.
حين تتأمل الأطفال والزهرات اللاتي لم يبلغن العاشرة وهن يحملن صور ياسر عرفات، والمرأة التي تحترق بشمس الثمانين الآفلة، أو الشاب على كرسيه المتحرك يدفع بالأيام صوب المستقبل، أو الفتاة الجامعية وهي تحمل صورته على غلاف كشكولها بين دروس الفيزياء المملة أو علم النفس الثقيل، أو الرجل العائد من نهار عمل متعب «يبحلق» في صورة عرفات المعلقة على جدار البيت الخارجي قبل أن يدلف للبيت، حين ترى كل هؤلاء تعيد سؤال نفسك نفس السؤال القديم عن السر الكامن في عرفات، السر الذي يجعله القاسم المشترك للزمن الفلسطيني من أطفاله فشبانه فشيبه. لماذا يبدو عرفات قاسماً مشتركاً للجميع؟.
يصعب تحديد إجابة عن السؤال السابق لأنه لم يسبق في التاريخ وجود شخصيات مثل عرفات وهي إن وجدت فقليلة. وبالطبع وجودها سابقاً لا يعني وجود إجابة عن السؤال المحير حول عرفات وكينونة حضوره الدائمة في تاريخنا ووعينا وحاضرنا كما ماضينا ومستقبلنا.
تخيلوا الطفل أو الطفلة التي لم تبلغ العاشرة، أي أنها ولدت بعد ثمانية أعوام من استشهاد عرفات، تنظر إلى صورته وتنشد له شعراً وتغضب وتثور وهي تحمل اللغة على مراكب المجاز، ثم تتأمل الفراغ الباهت أمام عينيها حين تنتهي من كل ذلك، كأنها للتو قد خسرت لعبة لهو مع زميلاتها في الحارة.
الطفلة التي بالنسبة لها عرفات صورة من الغيب لا تعرف عنها شيئاً أكثر من اسمها ورسمها المكرر: الرجل الذي يعتمر الكوفية بنفس الطريقة لا غير. الطفلة تكبر ويظل عرفات داخلها كما هو لأنه ولد بهذه السيرة وبهذا الحجم وبهذا الشكل. لأنه عندها يكون عرفات القاسم المشترك بينها وبين الآخرين.
والمرأة التي تواصل السير في درب الثمانين يروي وجهها قصصاً وحكايات من أزمان غابرة، تنظر إلى صور الرجل الذي عاشت أكثر من نصف عمرها وهي تراه يومياً في التلفاز أو تسمع صوته في نشرة الأخبار، أو هرولت مع نسوة الحي لاستقباله حين زار مدينتهم أو قريتهم أو مخيمهم ذات يوم.
الآن وقد مضى العمر ولم يعد الرجل الذي باتت صورته تشبه جواز السفر الثابت تنظر إلى الصورة كأنها تحمل معها طيفاً من الحاضر عبر الزمن وظل باقياً. عرفات لم يكن مجرد شخصية في تاريخ الحياة ولا فصلاً في المدونة الوطنية، بالنسبة لها كان حكاية شخصية بامتياز.
أو تخيلوا الرجل العجوز أو ذلك الذي في منتصف العمر وهم يبكون عرفات. بالطبع لم يكن رفيق درب لهما بالمعنى الحقيقي لكنه كان رفيقاً لدربنا كلنا.
كان عرفات صديق كل واحد منا بطريقة أو بأخرى، وكان رفيق سلاح لكل من حمل السلاح منا أو من أصدقائنا بصرف النظر عن انتمائنا السياسي، وكان رفيق قلم لكل من كتب قصيدة عن فلسطين أو رواية من واقعها أو عن ناسها أو غنى بحنجرته أغنية حزينة أو فرحة عن جمالها أو عذاباتها. كان عرفات رفيق درب للجميع طالما كان الدرب هو فلسطين أو يعبر منها أو يقود لها.
وبين الطفلة التي لم تبلغ العاشرة والمرأة التي تعبر ممر الثمانين يتسع بون الزمن ويزداد وتكبر المسافات، ولكن يبقى ثمة قاسم مشترك واحد وحاضر واحد وبطل واحد في نفس الرواية إنه ياسر عرفات.
عرفات هو الشخصية التي ستستمر، الرواية والأوديسة الفلسطينية، ولن ينتهي حيث سيظل حاضراً في كل صفحاتها.
هو ليس بطلاً بالمعنى المجازي بل هو بطل فعلي، لكنه يفرق عن كل أبطال الروايات أنه لا يواجه نهاية قاضية تنفيه خارج متن السرد وتجعل منه شيئاً من الماضي.
قليلون هم الأبطال الذين يحظون بحضور دائم في كل الروايات، وقليلون هم الأبطال الذين لا ينتهون مع انتهاء الرواية. في الحالة العرفاتية فإن الرواية لا تنتهي والبطل لا ينتهي يظل حاضراً بقوة.
إنها الرواية التي يكتبها الفلسطينيون كل يوم من خلال إصرارهم على الحياة وتمسكهم بحقهم. تذكروا أن هذه هي فكرة الصمود التي جعلتنا لا نندثر كما أراد لنا الغزاة ولم نتحول إلى غبار بل بقينا مثل جبال فلسطين وحرها وسوافيها وصحرائها، تذكروا أن هذا الصمود والبقاء هو ما كان ينادي به عرفات. الصمود القائم على الأمل حين سيأتي شبل من أشبال فلسطين أو زهرة من زهراتها ويرفع علم فلسطين.
عرفات الذي نجح في جعلنا نشعر بأننا ما نحن عليه، لا ما أرادت لنا النكبة ولا ما يخطط له اللصوص الذين سرقوا البلاد ويحاولون.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد