الحقيقة أن فوز الجمهوريين بمجلس النواب، وكذلك مجلس الشيوخ، إن أمكنهم ذلك، أو حتى منع الحزب الديمقراطي من حسم التنافس على هذا المجلس لصالحه، وهذا ما تدلّ عليه التوقعات حتى الآن، الحقيقة أن الوصول إلى نتيجة كهذه سيغير كثيراً في الحالة الأميركية.
ولكن قبل أن نوضح فحوى هذا التغيّر علينا أن ندرك أن هذه الانتخابات، شأنها شأن غيرها لا تبدّل ولا تغيّر بأي صورة جوهرية من واقع الأزمة الأميركية، ولا من فقد الولايات المتحدة لمظاهر كبرى من مظاهر سطوتها الدولية، وسيحد، إلى حدود حاسمة، من قدرتها على الاحتفاظ بدورها المهيمن.
اللعبة في الولايات المتحدة مكشوفة ومفضوحة، أيضاً.
ضخّت اللوبيات الانتخابية، والتي تعمل لصالح المجمّعات العسكرية والنفطية والصناعية والمالية، وجماعات الضغط السياسي في هرم النظام السياسي، ضخت حسب أرقام رسمية ما يزيد أو يقارب الـ(20) مليار دولار لتمويل الحملات الانتخابية.
إن من يقف خلف التمويل المهول لهذه الانتخابات هي عصابات ومافيات محترفة في هندسة الخطط الخاصة بتلك المجمعات، ومن يعتقد أن إرادة الشعب الأميركي هي التي تقرر الرئيس أو أعضاء الكونغرس فهو ساذج على أقلّ تقدير.
الأمور شديدة الخلط والتعقيد.
هناك صراع حقيقي وفعلي حول قضايا اقتصادية واجتماعية حادة، مثل "الإجهاض"، التضخّم، الغلاء المدمّر في ارتفاع الأسعار، وتآكل القدرة الشرائية، بل وهناك قضايا مهمة في مجال سياسات التعليم والعمل وقضايا أخرى كبيرة ومهمة، لكنها تتوه في ردهات الكونغرس، وتدخل في عوالم التشريع والموازنات، ويتم إلغاؤها أو استبدالها في عهد رئيس جديد، أو لدى ولاية كونغرس جديد، أو تجميدها على الأقل.
ويعود الشعب الأميركي كل سنتين يحمل أعلام الحزب الديمقراطي ويلوّح بها، أو الحزب الجمهوري ويلوّح بها حسب هندسة خبراء الانتخابات، وحسب التمويل الذي دفعه "كبار القوم".
يشارك بين 25-30% من الأميركيين في هذه العملية البهلوانية، وتعود جماعات المجمعات والضغط لتمارس لعبتها الحقيقية في خداع الجمهور، وتصوير هذه الانتخابات وكأنها التعبير عن إرادة الشعب الأميركي.
النظام الانتخابي نفسه هو نظام فاسد، ومفسِد، ويؤدي حتماً إلى الفساد، لأنه بالأساس لا يوجد أحزاب ولا ما يحزنون، توجد هيئات ممثلة لجمهور معين يتم تشكيلها أو استدعاؤها في فترات الانتخابات، وتتكرر هذه العملية دورياً وبانتظام، ويتم "تداول" السلطة، مرة هنا وأخرى هناك.
ومع ذلك، فإننا لا نستطيع من الناحية "الرسمية" أن ننعت كل ذلك بأنه ليس ديمقراطياً، بالرغم من أن أكثرية متزايدة من الطبقة الوسطى الأميركية، ومن مثقفيها على وجه الخصوص ضاقت ذرعاً بهذه اللعبة المفضوحة.
ومهما يكن من أمر فإن "الديمقراطية" الأميركية باتت تحتاج إلى إصلاحات شاملة وجذرية، وخصوصاً في النظام الانتخابي نفسه.
على كل حال، سيكون من حسن حظ الولايات المتحدة أن "يظفر" الجمهوريون بمجلس النواب على الأقل، لأن أكثر من "ثلث" قاعدة الحزب الجمهوري كما يُشاع ستلجأ إلى الفوضى والعنف، وسيكون صعباً للغاية ضبط أعداد هائلة من هذا القبيل في ظل فوضى انتشار السلاح في المجتمع الأميركي.
أما إذا ظفروا "بالغرفتين"، وفي ظل تدنّي شعبية الرئيس بايدن التي كسرت حاجز الـ (40%) في هذه الأيام، وبالرغم من تدخل لافت ومباشر من الرئيس الأسبق باراك أوباما، فإن تغيرات كبيرة ستحصل في السياسات الخارجية ــ وهو ما يهمنا أكثر من غيره ــ للولايات المتحدة.
كما قلنا أكثر من مرة فإن إدارة بايدن ارتكبت أحد أكبر أخطائها الاستراتيجية القاتلة عندما اعتقدت أن "خطتها" في استدراج روسيا، ستنجح لا محالة، وذلك بالاعتماد على ما كانت تعتقده الولايات المتحدة عن "هشاشة" الاقتصاد الروسي، وعدم قدرته على تحمّل الكم الهائل، وغير المسبوق من العقوبات، وهو ما جعل الولايات المتحدة ترى في هذه "الخطة" المرحلة الأولى والحاسمة لحصار الصين وإخضاعها فيما بعد.
من دون (طول سيرة) فشلت هذه الخطة، وارتدت على الغرب، ويبحثون، الآن، كلهم عن مخرج مناسب لإنهاء هذه الحرب.
إذا تمكن الجمهوريون من السيطرة على الكونغرس فسيبدؤون حتماً بالانسحاب التدريجي من هذه الورطة، ولن يكون هذا الانسحاب مباغتاً أو علنياً، وإنما سيأخذ بضعة شهور حتى يتبلور بصورة نهائية.
وحتى لو أن الحزب الجمهوري استحوذ على مجلس النواب فقط، فإن هذا يكفي للسير في هذا الاتجاه، وإن بوتيرة بطيئة نسبياً.
وعلى كل حال، حتى ولو حصلت "معجزة" واستحوذ الحزب الديمقراطي على الغرفتين معاً فإن نفس هذا المسار بات حتمياً.
الشيء المدوّي الجديد ــ برأيي ــ هو أن نجاح الحزب الجمهوري سيؤدي إلى نقل البندقية الأميركية من الكتف اليمنى إلى الكتف اليسرى في مواجهة الصين.
القيادة الصينية ــ برأيي، أيضاً ــ فهمت بصورة عميقة هذا التوجّه القادم في حال فاز الجمهوريون، وحتى في حال إن فازوا بنصف الغنيمة فقط.
كان لافتاً جداً للانتباه القرارات التي اتخذها الحزب الشيوعي الصيني في المؤتمر الأخير، وكان لافتاً أكثر الزيارة التي قام بها الرئيس الصيني لمقر اللجنة العسكرية المركزية لجيش الشعب الصيني بالبزّة العسكرية لقيادات الأركان الصينية، وحديثه المباشر والصريح عن أن الجيش الصيني يعدّ نفسه للانتصار!
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيربح الحرب دون أن يخوضها أكثر مما خاضها في هذه الحالة، وكل ما عليه تدمير ما تبقّى من البنية العسكرية، وبنية الطاقة في أوكرانيا، وسينتظر المفاوضات عندما يجبر "الغرب" الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي على التسليم بالأمر الواقع.
أما في الصين فلن ينتظر الرئيس الصيني حتى يجمّعوا أنفسهم ضده، وسيبادر في أي لحظة لحسم الحرب بسرعة.
بنيامين نتنياهو ينتظر على أحرّ من الجمر قبل أن "يتورّط" في عهود وعقود قبل معرفة القادمين إلى الكونغرس.
بالمناسبة، تساورني شكوك كبيرة حول تشكيلة الحكومة الإسرائيلية.
إذا استمال نتنياهو بيني غانتس ويعلون، فسيفلت من دكتاتورية الصهيونية الدينية أو على الأقل سيحاول قبل أن يلتزم لاحد وبذلك سيضمن دعم الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء. ليس نتنياهو من سيستعجل الأمر ولاحظوا كيف أن الصهيونية الدينية تضغط بشدة بسرعة تشكيل الحكومة ولاحظوا أيضا أن مواقف غانتس ويعلون لا تبدو لي حاسمة ونهائية.
يريد نتنياهو أن يتريّث قليلاً لأن تشكيل الحكومة مضمون في كل الأحوال، ولأن بايدن لن يدلّله كثيراً هذه المرّة، ليس لأنه أقلع عن صهيونيته، وإنما لأن معركة قرارات الإدارة ستكون على محكّ اللعبة التي يجيد نتنياهو لعبها في الولايات المتحدة، وفي الغرف الداخلية لكامل مؤسسة الكونغرس، خصوصاً أن القرارات الرئيسة التي تهم إسرائيل هي من اختصاص الرئيس أكثر منها من اختصاص الكونغرس.
وشوَشَني صحافي أجنبي عادةً ما أثق برأيه وقال: هذه هي آخر انتخابات إسرائيلية قبل الانقلاب القادم.
وهذه هي آخر انتخابات أميركية قبل الانقلاب القادم.
وهذه هي آخر الإرهاصات قبل أن تنقلب أوروبا رأساً على عقب في غضون سنة واحدة ليس أكثر.
أنا أُحبّ أن أُصدّق، ولا أملك ما أفنّد بها "وشوَشَته"، أما المشكلة والأزمة أن وشوَشَاته غالباً ما تحققت. المهم ألا مفرّ من أُفول نجم الولايات المتحدة، وهذا هو الأهمّ في الأمر كلّه.
 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد