انتهت جولة الحوار الوطني في الجزائر، ووقّعت الأطراف على وثيقة لا يمكن القول إنها وثيقة مصالحة، بل بيان نوايا حسنة لإنجاز هذه المصالحة. هذا لا يقلل من الجهد الجزائري، لكن ما تم الإعلان عنه كان عبارة عن نوايا طيبة، تقول وفقها الأطراف: إنها ترغب في تحقيق هذه النقاط الواردة في البيان. لا يوجد الكثير. إنها النقاط التي يوجد اتفاق نظري على أنها الحل الأمثل للخروج من الأزمة. ملف منظمة التحرير الذي يعني دخول كل من هو خارجها إليها. انتخابات المجلسين التشريعي والوطني، والرئاسية. تكريس مبدأ الشراكة السياسية، والتأكيد على أهمية الوحدة الوطنية، والسعي المشترك لإنهاء الانقسام. توحيد المؤسسات الوطنية وتجنيد الطاقات لذلك. وهذه نقاط مثالية، لكن ينقصها الإجابة عن السؤال: «كيف يمكن تحقيق ذلك؟».  
هنا مربط الفرس. الإجابة عن سؤال «كيف» هي بحد ذاتها سؤال من سيربح المليون. لأن هذه الإجابة لا تعني النوايا الحسنة التي عبّرت عنها الأطراف، بل الخطوات الواجب اتخاذها من أجل تحقيق ذلك. إنها ببساطة الأثمان الواجب دفعها من أجل إنجاز المصالحة. إنها الحالة التي تعني أن الانقسام لم يعد موجوداً، وأن إنهاءه ليس رغبة ونيّة يجري العمل على تحقيقها، بل هدف منشود تم إنجازه. ما حدث في إعلان الجزائر هو إعلان نوايا جميل ومحمود، لكنه ليس إجابة عن السؤال الكبير الذي يعني أن تفيق من النوم فترى الانقسام قد ولّى.
المؤكد أننا نطمح إلى ما هو أبعد من النوايا الحسنة التي بات كل مواطن يتمنى أن تكون موجودة حقيقة، وأنها ليست أيضاً حبراً على ورق التفاهمات: التفاهمات التي صارت تجوب كل عواصم العالم، ويتم التوقيع عليها في كل عاصمة. لذلك فإن ثمة عدم ثقة لدى المواطنين في كل ما يجري، لأنهم عاشوا تلك اللحظات كثيراً قبل ذلك، وعرفوا أن التفاؤل المفرط لن يقود في كل الأحوال إلى نتائج إيجابية. باتوا يخافون من الفرح ومن التفاؤل؛ حتى لا يصدمهم الواقع بما يعرفون ولا يرغبون. لذلك فلا أحد قابلَ ذلك بأي فرح.
ومع ذلك، فإنه رغم الفتور الشعبي في استقبال ما حدث في الجزائر، إلا أن ثمة الكثير الذي يمكن التعويل عليه عند النظر للمستقبل. الرهان على هذا المستقبل يحتاج إلى بعض التفاؤل: التفاؤل الذي يصعب القبض عليه في ظل الخيبات السابقة. ثمة ما يمكن النظر إليه بوصفه إنجازاً يجب المراكمة عليه. على الأقل فملف المصالحة بات لأكثر من عام ونصف العام مبعداً لا يمسّه أحد، حتى كدنا ننسى أن ثمة شيئاً يجب العمل على تحقيقه اسمه المصالحة. الآن هناك ما يمكن الحديث عنه حتى لو لم يكن هذا الشيء ملموساً وقابلاً للتطبيق. شيء يصلح لأن يكون المدخل للبحث في الشيء الملموس المراد والمرغوب.
هناك خطوة عامة توضح لنا أين يجب أن يتركز الجهد الذي يسعى وراء إنهاء هذه الحقبة السوداء من أجل الوصول إلى اللحظة المنشودة. لا يجب أن نبالغ في انتظار النتائج المبهرة، ولكن أيضاً يجب ألا نحمل كل شيء على عيوب الماضي وفشل المحاولات السابقة. ربما يحسب لهذه المحاولة تواضعها وعدم إفراطها في تقديم نفسها كمنجز كبير، حيث لم يصاحبها التهليل والتصفيق الذي يقول إن فتحاً جديداً سيحدث. تمّت بهدوء ودون صخب، كما أن توقعاتها كانت غير مبالغ فيها. وربما أن مرد جزء كبير من هذا الفتور الشعبي إلى هذه الحقيقة، وبالتالي حافظت المبادرة الجزائرية على واقعيتها. لم تقل إنها ستقضي على الانقسام بضربة قاصمة، ولم تسعَ لو حتى على مستوى البلاغة والخطابة إلى الإجهاز عليه.
باتت لدينا خطوة عريضة تقول كل الأطراف إنها ستنطلق منها من أجل إنهاء الانقسام، وتعهدت بالعمل على تنفيذ هذه الخطوات تدريجياً. صحيح أننا لا نعرف كيف سيتم ذلك، لكن هناك من قال: إنه سيعمل على إنجاز هذا. مرة أخرى يبدو هذا غامضاً، إذ إن غاية أي حوار مصالحة حقيقية هي تحقيق ما قالت الأطراف إنها تسعى لتحقيقه، وعليه فإننا في المحصلة لم ننل الكثير من الجوائز، ومع هذا فإن إخراج المصالحة من حالة الجمود والفتور التي شهدتها أمر مهم في البحث عن الخطوات القادمة.
الآن هناك شيء يجب العمل عليه. الارتقاء ببيان النوايا الحسنة الذي تم، والعبور إلى خطوات تمهيدية لكسر جبل الجليد الشاهق الذي يعزل الأطراف عن بعضها البعض. هذا يتطلب استمرار الحوار الداخلي بشكل معمّق من أجل وضع أسس تنفيذية تترجم هذه النوايا إلى أفعال حقيقية تنجح عبر الانزياح التدريجي، أو ما يعرف بالتأثيرات الجانبية، في خلخلة حالة الجمود، ووضع حقائق جديدة على الأرض تكون على حساب عناصر ومظاهر التوتير السلبية التي تجعل المصالحة متعذرة. نحن بحاجة لخطوات وإجراءات تقول إن إجراء الانتخابات بالتوافق، ودون التراشق، أمر ممكن ويمكن التوصل لتفاهمات بشأنه، كذلك الأمر في قضية تمكين الحكومة، وحلّ الازدواجية في البنية المؤسساتية سواء المدنية أو الأمنية. هناك الكثير الذي يمكن القيام به دون المجازفة بالوصول إلى انسداد الطريق مرة أخرى.
ربما هذا بحاجة لمتابعة من راعي الاتفاق، لكن أيضاً بحاجة لأن تكون النوايا حقيقية. ثمة مخاطرة كبيرة تنتظرنا إذا فشلت الجهود الجزائرية، تكمن في أننا نثبت للعالم، تحديداً لكل أصدقائنا، أننا غلاظ على بعضنا بعضاً، وأنه لا يمكن لأحد أن يمون علينا. صحيح أن الانقلاب - الذي أوجد هذا الانقسام - تم بقرار خارجي وتم دعمه من قوى معادية للمشروع الوطني، بل تم تسهيل حدوثه من قبل الاحتلال، إلا أنه آن الأوان لأن نقول: إننا أصحاب إرادة حقيقية تضع المصلحة الوطنية قبل وبعد كل شيء.
 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد