جورجيا ميلوني .. كيف ستدير علاقتها بالفاتيكان؟
خلال حملتها الانتخابية، دأبت جورجيا ميلوني على التذكير بهويتها كـ"أم إيطالية مسيحية"، واتخذتها شعارا محوريا لاستمالة الإيطاليين في حملتها الانتخابية "الله، الوطن، العائلة"، وهو شعار تقليدي للأحزاب المسيحية اليمينية في القارة الأوروبية، إلا أن اختلافات أيديولوجية كبرى تفصلها عن البابا فرنسيس وعن توجهاته "التقدمية" في الكنيسة.
وعلى إثر فوزها بالانتخابات وتمكنها من تشكيل الحكومة، بدأت الصحافة المعنية بالشأن الكاثوليكي بطرح أسئلة حول علاقتها المستقبلية بالفاتيكان والبابا فرنسيس.
مواقف البابا فرانسيس
يعرف عن بابا كنيسة روما البابا فرنسيس "نفوره" من سياسات الأحزاب الشعبوية اليمينية، ووفق محللون فإن صعود التيارات اليمينية في أوروبا خلال الانتخابات الأخيرة لا يمثل خبرا سعيدا بالنسبة له.
البابا فرنسيس له مواقف مناصرة للفقراء وللقوانين المتسامحة مع المهاجرين، في حين يتبنى السياسيون اليمينيون مواقف معاكسة تماماً، خصوصاً في موضوع الهجرة.
وفي وقت تتفق الكنيسة مع شعارات بعض تلك الأحزاب حول حماية العائلة ورفض الإجهاض ورفض الموت الرحيم، إلا أن محللين رأوا أن جزءا كبيرا من الكاثوليك الذين صوتوا لجورجيا ميلوني وحزبها، هم من الكاثوليك الذين يصنفون أنفسهم "مناهضين لتيار فرنسي التقدمي في الكنيسة"، إذ يرون أنه يحيد عن القيم التقليدية للمسيحية.
في 2020، قالت ميلوني: "أنا مؤمنة، وأسمع كلام قداسته، ولكني على المستوى السياسي لا أتفق دوماً مع مواقفه".
وخلال خطاب إعلان الانتصار، استلهمت رئيسة الوزراء الإيطالية العتيدة قولاً للقديس فرنسيس الأسيزي، شفيع البابا: "ابدأ بفعل الضروري، ثم بالممكن، وفجأة ستجد أنك تحقق المستحيل".
لم يتخذ البابا مواقف علنية من الانتخابات الأخيرة، لكنه حض الأساقفة، بحسب مراقبين، على تشجيع الناس على المشاركة في التصويت بكثافة.
وأصدر الكاردينال ماتيو زوبي، رئيس المؤتمر الأسقفي الإيطالي، بيانا تحدث فيه عن ضرورة أن تخصص الأحزاب برامج "للعناية بالمهمشين".
وقال زوبي: إن الكنيسة "مستعدة للتعاون مع كل الأحزاب".
يعرف عن زوبي، أنه مناصر لجماعة سانت إيجيدو العلمانية، التي تتبنى مواقف أقرب إلى يسار الوسط.
تباين الآراء بين البابا وميلوني
بحسب محللون، النتائج الأخيرة ستجعل العلاقة بين حكومة ميلوني والفاتيكان مضطربة، ليس فقط لموقفها المعلن من ملف الهجرة، ولكن لتبنيها مواقف التيار الأكثر تشددا في القضايا الاجتماعية والعائلية من التيار الذي يقوده البابا.
حث البابا فرنسيس في خطاباته الأخيرة، الإيطاليين على الإنجاب، مع انخفاض نسب الولادة في البلاد بشكل غير مسبوق، ولكن في الوقت ذاته، فهو يرى أن احتضان اللاجئين يمكن أن يكون حلا لمسألة شيخوخة المجتمع الإيطالي، وذلك ما لا يوافق عليه اليمين المتشدد.
نقطة التقاء
في المقابل، يرى مراقبون أن هناك ملفا ساخنا مهما جدا، قد يجمع بين البابا ومليوني، وهو الموقف من أوكرانيا، فمع معارضته الحرب، إلا أنه يبدو من الأصوات المنفتحة للحوار مع بوتين، وذلك موقف ميلوني أيضا.
طبيعة العلاقة بين الكنيسة والدولة الإيطالية
تاريخيا العلاقة بين الكنيسة والسياسة في إيطاليا، توضح بأنه لن يكون من السهل على ميلوني العمل بتجرد كامل من تأثير الفاتيكان.
لم تكن العلاقة بين الكنيسة والدولة الإيطالية جيدة، ففي نهاية القرن التاسع عشر أثر توحيد إيطاليا، عام 1861، بشكل سلبي على الممتلكات البابوية.
وبعد فصل الدولة عن الكنيسة، صدر قانون "الضمانات الباباوية" عام 1871، فمنح "امتيازات سيادية" للحبر الأعظم، ولكنه جرده من ممتلكات وأراضٍ كانت تابعة للكرسي الرسولي.
البابا بيوس التاسع رفض في ذلك الحين القانون، وأعلن نفسه "سجينا للفاتيكان". وفي العام 1874 أصدرت الكنيسة قرار يمنع الكاثوليك في إيطاليا من الانخراط في السياسة بشكل كامل، وبقي ذلك القرار ساري المفعول حتى العام 1919 حين شارك "حزب الشعب الإيطالي" في الانتخابات، ذلك الحزب، الذي كان يتبنى سياسة مسيحية ديمقراطية مستوحاة من التعاليم الكاثوليكية، حظي بدعم صريح من الفاتيكان، وحصد مقاعد في البرلمان.
بعد تسلم الحركة الفاشية الحكم في إيطاليا، وقعت الكنيسة مع موسوليني معاهدة لاتران عام 1929، والتي نتجت عنها استقلالية أكبر للفاتيكان، وحرية أكبر للمدارس والجمعيات الكاثوليكية.
كان موسوليني يحظى بدعم من شخصيات في الفاتيكان، ولكن العلاقة ساءت مع انتقاد الكنيسة لسياسات الفاشيين العنصرية.
الحرب العالمية الثانية
بات تأثير الكنيسة الكاثوليكية على العملية السياسية في البلاد واضحا، من خلال "حزب الديمقراطية المسيحية" الذي كان يحظى بدعم الفاتيكان، والذي بقي في صدارة المشهد لأكثر من 45 عاماً.
شهد عهد "الديمقراطية المسيحية" محطتين بارزتين، وهما استفتاء عام 1974 حول تشريع الطلاق، واستفتاء عام 1981 حول منع الإجهاض، وفي المرتين، وبالرغم من دعم الكنيسة، فشل الحزب المسيطر في فرض قوانين تتناسب مع أجندته لناحية منع الإجهاض ووضع قيود على الطلاق.
بموجب اتفاقية بين الدولة الإيطالية والكرسي الرسولي، عام 1984، لم تعد الكاثوليكية الديانة الرسمية في إيطاليا، ولم يعد تدريس المسيحية إلزاميا في المدارس الحكومية، وباتت ممتلكات الكنيسة مشمولة بالضراب، وألغيت رواتب الكهنة التي كانت تمنحها الدولة، ما أفقد الكنيسة جزءا كبيرا من مكانتها في السياسة.
انهارت شعبية "الديمقراطية المسيحية" بعدما هزّت فضيحة "الأيدي النظيفة" إيطاليا في التسعينيات، وكشفت تحقيقات قضائية عن تجذر الفساد في الأحزاب والدولة، ما أدى إلى حل الأحزاب القديمة جمعاء، وبداية الجمهورية الثانية.
بعد تراجع دور الأحزاب التقليدية تغيرت علاقة الكنيسة بالعملية السياسية، إذ لم يعد تأثيرها مباشرا على الأحزاب، بل باتت تمارس تأثيراً غير مباشر من خلال الجمعيات، ومن خلال انتشار السياسيين الكاثوليك في عدد من الأحزاب عوضا عن حزب واحد يدعمه الفاتيكان.
كتب الباحث أندرس كيولن، في بحث عن جامعة "برغن" النرويجية، أنه منذ التسعينيات تعزز تأثير الكنيسة في الحياة العامة من خلال هيئات كاثوليكية خيرية واجتماعية، تلعب دورا في التأثير السياسي، ولها صلات جيدة مع السياسيين، أبرزها "المؤتمر الأسقفي الإيطالي" وهو تجمع رسمي لجميع أساقفة إيطاليا، و"أخوية المناولة والتحرير".
في تلك الفترة، لعب رئيس "المؤتمر الأسقفي الإيطالي" حينها كاميلو رويني دورا مهما في السياسة، ودعم ترشح برلوسكوني لرئاسة الحكومة.
وعرف رويني بابتداع مبدأ "القيم غير القابلة للتفاوض" في وجه السجالات البرلمانية التي سادت في إيطاليا خلال التسعينيات ومطلع الألفية، حول الموت الرحيم والتلقيح الصناعي والاجهاض.
وبالرغم من غيابها عن التأثير السياسي المباشر، تمارس الكنيسة دورا معنويا مهما على الناخبين، خصوصا عند طرح قوانين للاستفتاء.
عام 2005، وعند طرح قوانين الخصوبة والأبحاث على الأجنة للاستفتاء، حثت الكنيسة الناخبين على المقاطعة، ما انعكس على مشاركة منخفضة في التصويت، وبالتالي عدم تمرير القانون.
علاقة الكنيسة بالسياسة في إيطاليا (2014-2016)
من الأمثلة المعاصرة على علاقة الكنيسة بالسياسة في إيطاليا، بحسب كيولن، عهد رئيس الوزراء ماتيو رينزي (2014-2016)، من "الحزب الديمقراطي" (يسار الوسط)، وكان يعرف نفسه كسياسي كاثوليكي، ويتبنى أفكارا مسيحية يسارية واشتراكية.
كانت سياسات رينزي توصف بأنها تقدمية، ورغم اتفاقه مع الكنيسة على بعض القيم الأساسية كان داعما للشراكات المدنية بين الأشخاص من الجنس نفسه، ودعم قانونا لتسريع إجراءات الطلاق. ولكنه في المقابل، كان يتبنى سياسات تدعم الفقراء، ودعم قوانين متسامحة مع المهاجرين، وكلاهما موقفان تبناهما البابا فرنسيس منذ توليه منصبه.
يرى بعض المحليين أن تبني بعض الأحزاب الكاثوليكية التقليدية في إيطاليا لمواقف تقدمية، من بينها قانون مناهض لكراهية المثليين، جعل شريحة من الناخبين تتجه لمرشحة تتبنى مواقف تخاطب قناعتهم.