كانت إشارة الرئيس أبو مازن إلى القرار 181 نقطة مهمة؛ لأنها تقول: إن علينا أن نعيد فتح ملف التسوية من البداية، وأن نبحث عن المشكلة وطرق الحل. الحقيقة أن الشعب الفلسطيني، الذي تمّت سرقة أرضه، طالما بقي فيها فلا يوجد خطر على القضية. لأن صمودنا في البلاد وصمود سرديتنا وروايتنا الوطنية أساس بقائنا. المشكلة مشكلة الاحتلال لأن عليه أن يواجه السؤال عنا. إن قراءة سريعة لعلاقة دولة الاحتلال مع الشعب الفلسطيني تكشف ذلك.
صحيح أن حرب حزيران عنت انتصار الاحتلال الكبير على العرب، لكنها وضعت أمام دولة الاحتلال معضلة كبيرة اسمها الشعب الفلسطيني. الشعب الذي لم ينس أطفاله بعد موت شيوخه. كان على الدولة التي عزلت نفسها بعد أن طردت ما استطاعت من سكان البلاد، وظنت أن مشكلتها الحقيقية هي تدجين من تبقى في البلاد من عرب ومواجهة الخطر العربي من الخارج، أن تجد نفسها مع المشكلة الأعمق. كأنهم صحوا من النوم ليجدوا أن الشعب الفلسطيني لم ينته. فها هم اللاجئون، الذين تم طردهم من المدن والبلدات والقرى ومضارب البدو والرعاة، يعيشون على أمل العودة إلى كل ذلك الحلم. لم تنجح إسرائيل في إزالة هذا الشعب.
في الداخل لم يتعلم الطفل الذي بقي في الجليل كيف يكون جنائنياً ليهذب حديقة المستوطن الجديد الذي سكن في بيت ليس له في حيفا، ولم يتعلم الشاب الذي حرمته النكبة من مواصلة تعليمه كيف يمسح أحذية الجار الجديد من بولندا. لم يحدث هذا. تحولت هذه الجموع المشتتة، بعد أن نفضت غبار النكبة عن شعرها، إلى شعب أعاد تجميع هويته وذاته، وبدأ يناضل من أجل الحفاظ على الجين الوراثي بكل كروموزوماته التي تجعل منه جزءاً من الشعب الفلسطيني الأشمل. كان هذا أول خبر صاعق لجيل التأسيس من الصهاينة، الذين رسموا المذابح خططاً وطلبوا من الجنود تنفيذها؛ من أجل محو البلاد وأهلها، وعلموهم كيف يؤمنون بكل شيء فيها. لم يندمج هؤلاء في المجتمع الجديد ولا صار همهم أن يكونوا عبيداً لأسياد مفترضين، ولم يتحولوا إلى شخصيات ثانوية في الرواية، بل نجحوا وعبر قتال ونضال وصراع متعدد الجوانب في أن يظلوا على الخارطة.
الخارطة الكلمة المفتاحية لفهم كل النضال الفلسطيني في كل أماكنه. ما أرادته الصهيونية هو محو الشعب الفلسطيني، أن تتم إزالة فلسطين عن الخارطة. أن نتحول إلى ذكريات مؤلمة عن شعب عاش في الأرض، وربما يقوم القتلة بوضع نصب تذكارية لهذا الشعب قرب البحر من أجل التطهير عن شطحات الندم التي قد تساورهم، مثلما فعل المستوطنون البيض لاحقاً للهندي الأحمر.
ظل الشعب الفلسطيني في الداخل فوق الطاولة، لم يغب ولم يتم محوه، ولم تتم إزالة فلسطين من الخارطة. أشياء كثيرة يمكن أن تقال، ولا بد من تجميع كل أشكال هذا النضال التي جعلت العربي المشتت والمشرد رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه، حين يتم الحديث عن الدولة التي قامت على أنقاض أجداده.
أما في الضفة الغربية وقطاع غزة ، فإن القتال اليومي مع الدول العربية جعل حكاية هؤلاء الفلسطينيين تغيب بعيداً في دهاليز النقاش. بعض المجموعات المسلحة كانت تنطلق من قطاع غزة، وتنفذ عمليات فدائية في الداخل، وتكبد المستوطنين على الحدود بعض الخسائر، لكن كان ينظر لها على أنها جزء من القتال مع الدول العربية. وفي حالة قطاع غزة كان الحديث يدور عن الصراع مع عبد الناصر، سيما أن ضابط مخابراته مصطفى حافظ كان مسؤولاً عن تنظيم مثل هذه الأعمال.
ما أريد أن أقوله: إن الدولة الجديدة، التي قامت بعد النكبة على 80 بالمائة من أرضنا، كانت تتعامل مع سكان الضفة الغربية وقطاع غزة بوصفهم رعايا الدولتين العربيتين اللتين تتقاتل معهما، أي مصر والأردن. تم نسيان الضحايا الحقيقيين للنكبة، وتم تجاوز وقوعها. بل كان ثمة تقصّد في السرديات السياسية الإسرائيلية لتجاهل وجود هؤلاء، والاكتفاء بالحديث عن العرب القتلة، في محاولة كانت تشير بوضوح إلى أن هؤلاء الفلسطينيين الذين تم إجبارهم على ترك قراهم ليسو موجودين. تخيل أن من هُدم بيته عليه في قرية "هربيا" بات يعيش فقط على بعد كيلومتر من بيته في بيت لاهيا، وهناك من يظن أن أمره انتهى، وأنه لم يعد موجوداً، وأن كل ما في الأمر أن الصراع مجرد صراع مع الدول العربية.
كان احتلال الضفة وغزة بقدر كونه انتصاراً ساحقاً للدولة الجديدة صدمة حقيقية لها. فها هي تواجه حقيقة أن هذا الشعب لم ينته. ففيما كانت تعمل بقوة على تدجين من تبقى، وتهويد الأرض التي سرقتها وأقامت عليها دولتها، كان ثمة لاجئون يطورون سرديتهم الوطنية القائمة على نفي كل ما حدث، ومجابهة نتائج النكبة وتجاوزها. في تلك السرديات، كان يتم التأكيد على الطفل أن يافا مدينة فلسطينية، ويتم تحفيظه اسم القرية التي أُجبر والداه على تركها، كانت ثمة نُسق خاصة قائمة على تطور مخيال وطني ينفي ويدحض كون ما جرى حقيقة، بل في الكثير من ذلك كان مجرد وهم أو لحظة مؤقتة، لحظة كانت الحاجّات في المخيمات يحملن مفاتيح بيوتهن من أجل فتح الباب الذي يفضي إلى إزالتها.
نفس الشيء حدث بالنسبة لفلسطينيي الشتات، الذين كان يعتقد أنهم بسبب قرب اللغة والدين والعادات والتقاليد سيندمجون في المجتمعات التي تم تهجيرهم إليها، لكن ما حدث كان العكس؛ إذ إن نواة تشكيل الثورة المسلحة بشكلها الفلسطيني انطلقت من تلك المخيمات، حيث تم تطوير مقولات وشعارات فلسطينية خالصة تحث على مواصلة البقاء. ومع بعض التراجع في نسق الالتحام والاشتباك مع العدو، إلا أن تلك المقولات والسرديات نجحت في الحفاظ على لحمة الشعب خارج الجغرافيا وداخلها. تطور شيء متماسك له هدف واحد.
لم ينته الشعب الفلسطيني، وسيظل المشكلة الحقيقية لإسرائيل حتى لو صارت القوة الأولى في العالم، لسبب بسيط أن الاحتلال لم ينجح في هزيمة سرديتنا الوطنية، ولا استطاع أن يسوّق للعالم سرديته القائمة على نفينا.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد