مات محمود درويش مبكراً في منتصف ستينيات عمره كأن القدر يستكثر على الفلسطينيين الذين يحتاجون هذا الشعر العالمي إلى حمل قضيتهم إلى أقاصي الكون، فقد قدر له أن يموت قبل عشرية العرب السوداء حتى لا يغرق شعره في بحر الدم العربي ليضع خيبة فوق خيباتنا المتكررة ليغلق قصيدته الأخيرة على فائض إنسانية غطت أبيات شعره.
لو قدر له الزمن سنوات قليلة لن يصل به الحال أن يطلب عون الأجنبي على أخيه العربي وهو ما تناوله ساخراً في قصيدته «أنت منذ الآن غيرك»، وهو يكتب عن مأساة الفلسطيني الذي قتل نفسه في حزيران الكئيب ليقول: «أنا والغريب على ابن عمي وأنا وابن عمي على أخي وأنا وشيخي عليّ» مختزلاً بسخرية عندما تنقلب الصورة وتسقط القيم وتختل المعايير ويتجرد الفرد من أخلاقه.
تذكرت هذا مع رحيل الشيخ المثير للجدل يوسف القرضاوي الذي غادر دنيانا والانقسام في الحكم عليه في عالم عربي خلع فيه الرجل عمامته ونزل إلى الميدان مقاتلاً ليصل فيه الأمر أن يرجو أميركا خيراً لتضرب دولة عربية ونظاماً كان من أوائل من رفعه مديحاً من على فضائياته، وبين محمود درويش الذي يبكي على العرب الراحلين من الأندلس وهزيمة المسلمين هناك وتصاب قصيدته بحشرجة عند زفرة العربي الأخيرة وبين من يستدعي ورثة الذين انتصروا على الإسلام فيها لضرب عاصمة عربية، فرق عروبي هائل.
كان لا بد من استدعاء المقارنة حين ترى السيد خالد مشعل يبكي القرضاوي بحرارة وصدق، وبين منع إقامة بيت عزاء لشاعر فلسطين الأسطوري في غزة التي تحكمها حركة كان رئيس مكتبها السياسي. كم كان الأمر محزناً ألا يتم تقدير شاعر كان عنواناً للقضية وأحد رموزها.
ولمفارقات التاريخ أن درويش يبكي هزيمة العرب في الأندلس التي تم فتحها حين كانت دمشق عاصمة الخلافة، والتي كان الشيخ من الناتو بما فيه منتصرو الأندلس ضرب دمشق نفسها ...التاريخ ساخر وماكر جداً.
من حق حركة الإخوان المسلمين أن تودع رجلها وأسطول دعايتها وشيخها الكبير وأحد قادتها بكل هذا الحنين، فقد كادت تنجح جهود الرجل والدولة التي تقف خلفه بتسليمها العواصم العربية تباعاً وهو الحلم التاريخي وإن كان على طبق من الدم العربي وطائرات الناتو «الحلال» كما فعلت في ليبيا وتركتها مجرد ركام بلد وشعب سيظل غارقاً في دمائه، فالغاية تبرر الوسيلة هكذا قال ميكافيللي وإن لم يكن شيخاً لكن أستاذه فرديناند السياسي اللئيم الذي كتب عنه كان يتدثر بالدين.
أي إهانة تلحق بالدين مقابل فتوى بهذا القدر من الغرابة ؟ أو أيضاً فتاوى صراعات الإخوة داخل الوطن الواحد وتحريضهم على الدم والكراهية وعلى قتل الجيش المصري، من حق السياسيين أن يقولوا ما يريدون وأن يفعلوا ما يشاؤون فالسياسة على النقيض من الأخلاق والدين ببساطة لأنها اعتباراتها المصالح، لكن الدين يحتكم للمبادئ.
كان يجب عليه أن يبقي الدين منزهاً ومترفعاً ومحافظاً على منزلته فوق كل الاعتبارات، لكن عندما يقترب من دول تخوض معاركها ويضع نفسه بتصرفها لا بد وأن يخضع لسلطانها وهذا ما حدث ليعتدي على الدين بهذا الشكل السافر في ذروة اقترابه من دول كانت جزءا من صراعات الإخوة.
لا تتسامح الذاكرة العربية مع طلب العون من أميركا «أنا والغريب على أخي» وبغض النظر عن الاختلاف على الأخ فهذا له حكمه في الأخلاق وفي الوعي العربي ولا يخضع لوجهات نظر وهو الوعي الذي ما زال ينزف منذ اجتياح بغداد. فالقومية ليست هواية بل هوية رسختها آلاف الأعوام لتصنع هذه اللغة وتلك الهوية على هذه الجغرافيا الممتدة تشد أزر بعضها من بعيد ولو بصوت خافت، لكن هناك خيطاً متصلاً من يجعل صدى صرخة العربي في اليمن تتردد في طنجة.
لماذا الترحم على القرضاوي من قبل جماعة الإخوان المسلمين حد البكاء بينما لا يجوز الترحم أو استقبال العزاء بقيمة فلسطينية مثل محمود درويش ؟ ألا يثير هذا قدراً من الغرابة فلسطينياً ؟ ببساطة لأن الأمر يرتبط بالقبيلة الصغيرة التي وضعت لنفسها معايير قبلية مختلفة، فالقرضاوي كان ابنا للقبيلة وأبرز منظريها لتحقيق مصالحها وبصرف النظر عن الوسيلة في سبيل الغاية لكن درويش لم يكن ابنا للقبيلة بالعكس فقد أثيرت ضده كل نزعات التحريض عندما كتب بعد الانقسام «أنت منذ الآن غيرك».
عدت لأشاهد فتوى الناتو والتي ألحقت بالرجل وصف مفتي الناتو عندما سأله المذيع عن جوازها شرعاً ليعطي إجابة أكثر صادمة من الفتوى نفسها بجواز الاستعانة بالغرباء، ويضرب مثالاً بأن الثوار في الميادين في مصر استعانوا بالأقباط في ثورتهم ...! هذا هو أخطر ما يمكن أن يقال، هذا التقسيم الذي يعتبر المسيحي ابن الوطن غريباً وهذا التقسيم الذي يحمله هذا الفكر ويقسم أبناء الوطن الواحد يشكل مساساً خطيراً بوحدة المجتمعات، لم يقلها الرجل لأنه تعرض لحرج الفتوى المخالفة قطعاً لله ورسوله في المقابلة وفي لحظة ضغط فاجأته، بل استدعى ذلك من تركيبة ثقافية جسدت نفسها وكانت سبباً لزيادة التفسخ في المجتمعات وليس صدفة أن كل ما حصل كان للإخوان دور في هذا التصنيف والتفتت وهي دعوة للمراجعة بعد كل هذا الخراب.
وما بين شاعر يقف على أطلال أندلس الهزيمة باكياً وشيخ يستدعي ورثة النصر هناك لهزيمة العرب بأندلس أخرى مسافة تصنعها الذاكرة الجريحة ويصنعها الوعي العربي ولكنها أيضاً يجب أن تصدمنا بالمعايير والأخلاق، وإذا لم تفعل سنستدعي مقولة أبو إياد لأن هناك قضايا ليست وجهات نظر بل هي خطوط قومية وأخلاقية حمراء وارتداداتها على الداخل وتصنيفات القبيلة أشد خطورة ..!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية