تبدو الإجابة المطلقة عن السؤال السابق بالنفي، لأنها رغم كل عثراتها أفضل ما أمكن للدول العربية التي ورثت الحقبة الاستعمارية، وكانت نتيجتها أن تتفق عليه. ثمة حاجة لإصلاحها، ومن المؤكد أن هذه الحاجة تزداد يوماً بعد يوم أمام الإخفاقات المتتالية   التي يواجهها النظام العربي والتي لا تتوقف، ومع ذلك فإنه لا يبدو في الأفق ما هو أفضل منها. مرة أخرى ليست لأنها مثالية أو لأنها تشكل الحدود السماوية للتوافق العربي، بل ربما لأنها تشكل آخر ما يمكن أن يتوافقوا عليه ويحافظوا عليه ولو شكلاً لعقود. وربما هذا هو السر الذي يجعل الجامعة أمراً ممكناً رغم كل حالة التدهور العربي.
يمكن للبعض ألا يكون متيقناً من الإجابة السابقة، وقد لا تقدم القراءة نفسها الكثير من القناعات أمام من يشاهد الواقع العربي المرير، وتراجع مكانة العرب في سلم الحضارة، وحالة الاقتتال العربي العربي، وحقيقة أن الكثير من بلدان العالم العربي في حالة حرب داخلية أو مع جيرانها المباشرين، وأنه ليس ثمة اتفاق عربي على مفهوم العدو المشترك، فالعدو بات صديقاً وبات الأخ عدواً، وصار تمزيق إحدى الدول العربية مهمة وطنية بالنسبة لدول أخرى، وهكذا. لذلك فإن عدم قناعة البعض بالإجابة السابقة قد تكون مقبولة وربما مبررة، رغم أنها لا تغير من حقيق المطالعة السابقة في شيء.
خضت نقاشاً طويلاً مع مجموعة من الأصدقاء بعد مقالتي الأسبوع الماضي، في هذه الصفحة، حول ضرورة تطوير الجامعة العربية وحمايتها، والحفاظ عليها بوصفها أفضل ما يمكن أن يتفق عليه العرب. قد تبدو مثل هذه المقولة مستفزة بسبب ما وصلت إليه الجامعة من عدم فعالية، خاصة في القضايا القومية الحقيقية مثل القضية الفلسطينية والأزمة في سورية، وربما بعض الأدوار غير المحمودة والتدخلات غير القومية في بعض الصراعات. وكان من يجادلني يقول: إنها ربما لم تعد صالحة للعمل، وإن علينا كعرب أن نفكر في تجاوزها والبحث عن بدائل لها من أجل النهوض بالحالة العربية. ومن يبنى هذا القول لا بد أن يجد الكثير من الآذان الصاغية في أوساط المواطنين وبعض النخب. فالحالة العربية لا تسر صديقاً ولا تغيظ عدواً، والمؤكد أن المواطن العربي قد يجد، ليس في الجامعة العربية فقط، بل في أجهزة الدولة العربية برمتها، عبئاً على حياته اليومية. في هذا الكثير من الوجاهة. وكان يتم توجيه النقاش من قبل من يقول بضرورة تجاوز الجامعة العربية إلى ضرورات البحث عن بدائل عربية جماعية تستطيع أن تكون على مستوى التحديات التي تواجه المواطن العربي والدولة العربية. فثمة من يقول: صحيح أننا قبلنا ببقاء الدولة القطرية كقدر للشعب العربي، والتي تعني في المحصلة القبول بتمزيقه، ولكن لا يمكن استمرار السكوت عن حالة المؤسسات العربية الجمعية.
هل حقاً يمكن إيجاد بديل عن الجامعة العربية؟ يبدو السؤال مشروعاً أمام من يضع الحالة العربية أمام عينيه. وتبدو الإجابة عنه مراوغة بعض الشيء؛ لأنها قد تعني ضمن أشياء كثيرة وجود فرص لخلق مثل هذا البديل. بمعنى أن تعثر الجامعة العربية وعدم قيامها بمهامها القومية هو نتيجة قصور في مؤسسات الجامعة أو عدم كفاءة في طريقة إدارتها، أو لأن الجامعة طورت نظم وتقاليد عمل، تعيق تنفيذ التطلعات التي وجدت من أجلها. لو كان الأمر كذلك، فإنه يمكن القول: إنه لا بد من إيجاد بديل عن الجامعة حتى يكون هذا البديل ممثلاً حقيقياً للإرادة العربية، وحتى يستطيع أن يقوم بالمهام الوحدوية المطلوبة. لكن الأمر ليس كذلك بأي حال. فالجامعة ليست عاقراً وهي ليست عاجزة عن القيام بمهامها، إذ إنها ليست إلا جملة الاتفاقات والتوافقات العربية. فما يتفق عليه العرب في حال اتفقوا تقوم الجامعة بتنفيذه. المشكلة ليست في الجامعة كمؤسسة، بل في الدول التي يشكل توافقها هذه الجامعة. فمنذ نشأتها لم تكن الجامعة أسمى من الدول التي أوجدتها، ولم يسمُ أي قرار صادر عن الجامعة عن القرارات القطرية للدول الأعضاء. وعليه، فإنها لا تشكل بنية سياسية منفصلة، ولا جسماً وحدوياً حقيقياً بقدر كونها جسماً توافقياً. ربما تزخر أدبيات الجامعة ووثائقها بالكثير من العبارات الكبيرة عن الوحدة والتطلعات القومية وما شابه، لكنها في الحقيقية ليست كذلك. أي عند التنفيذ هي ليست من أجهزة توافقية بين دول لا تعرف التوافق والاتفاق للأسف.
ظهرت بعض المحاولات العربية الإقليمية الأقل ضيقاً، والتي حاولت بناء أجسام وحدوية مختلفة بين مجموعة دول عربية، ولكنها أيضاً ظلت أقل طموحاً وأقل إنجازاً من الجامعة. يمكن تذكر في هذا المضمار مجلس التعاون الخليجي الذي كان يمكن أن يشكل رافعة قوية لأنه يشكل وحدة بين نادي الأثرياء في المنطقة العربية، لكنه لم يفعل. ظل مجرد جسم تنسيقي لم يرق لمستوى المأمول. صحيح أنه حقق بعض التوافقات، ولكنها لم تمس سيادة الدول الأعضاء ولم تأتِ على أي من صلاحياتها.
أيضاً يمكن استذكار تجربة اتحاد المغرب العربي الذي لم ينجح في أن يكون جسماً توحيدياً للدول التي تعرف بدول المغرب العربي. كما أن مبادرات دمج الدول العربية في بعضها البعض فشلت وإن كان بعضها قد وصل حد الاقتتال والحروب. النتيجة التي يمكن استخلاصها من مراجعة كل التجارب العربية، أن الحالة العربية الوحيدة الممكنة هو العمل على تطوير الجامعة العربية حتي تكون حقاً جامعة لكل العرب، وحتى تكون عربية الإرادة. إذا ما تحقق هذان الشرطان يمكن لنا وقتها أن نتطلع إلى جامعة فاعلة تعبر عنا كعرب، وتصوغ الحدود المعقولة من السياسيات العربية المشتركة على طريق تحقيق التطلعات والآمال الوحدوية المنشودة.
 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد