استكمالاً للنقاش حول المجازر التي ارتكبت بحق شعبنا على يد العصابات الصهيونية خلال محاولة إبادته بشكل كامل، فإن ثمة ما يجب أن يقال عن تقصيرنا بحق روايتنا الوطنية. ألم يكن من المفاجئ أن العالم متفاجئ وغاضب لأننا نتحدث عن المجازر التي ارتكبت بحقنا؟ أنا بصراحة شعرت برعب حين وجدت أن العالم ما زال يناقش ما إذا كنا تعرضنا لعملية إبادة أم لا. هذا النقاش جرم بحقنا وبحق كل ما فعلناه، أو ما لم نفعله من أجل تبيان حقيقة ما جرى معنا. الرئيس محمود عباس لم يقل كفراً، قال الأشياء كما حدثت، وشرح ما وقع وقام بتوصيفه، لكن أن يقف العالم على إصبع ورجل من أجل تجريمه وإدانته، فإن هذا بحاجة لوقفة نفس من طرفنا. الرجل كان شجاعاً بشكل لا يوصف حين تحدث عن عذابات شعبه، وقارنها بكل ما مر به التاريخ من بشاعة بما في ذلك الهولوكوست، ولم يقم بإدانة عملية ميونيخ، بل قال: إن الأساس هو النظر إلى ما تعرض له شعبه من مذابح. إن تصحيح مسار التاريخ مهم لفهم ما يجري، أما إغماض العين عما اقترفه هذا التاريخ أو باسمه من محارق ومجازر وتشريد فهو هروب إلى الأمام. عموماً لم نكن نتوقع من العالم أن يصفق لنا، لكن ردة فعل العالم بحاجة لتأمل من أجل فهم كيف يمكن لنا أن نأخذ هذه القضية إلى الأمام.
وتفاجأت أكثر من دعاوى الكثيرين للتعريف بهذه المجازر، وتوضيح حقيقتها، ونشر البيانات حولها مشفوعة بالأرقام والصور والشهادات. وهذا أمر مهم، ونحن دائماً بحاجة له حتى لو أقر العالم بهذه الجرائم واعتذر عنها وسعى إلى تصويب ما أعوج من التاريخ بسببها، سنظل بحاجة لأن نذكّر العالم بأن هناك ظلماً وقع، وأن هناك دموعاً ودماء لن تجف مهما مر الزمن، ومهما قام العالم من أفعال صائبة طلباً للغفران. لكن حين تسمع الجميع يقول: إن علينا أن ننشر معلومات عن هذه المجازر وباللغات المختلفة، تسأل نفسك: هذا يعني أننا لم نكن نفعل ذلك؟ إن لم نكن نفعل فإن تلك جريمة.
الحقيقة أن نضال شعبنا من أجل تبيان ما جرى معه، وما جرى بحقه، ولشرح الألم الذي يشعر به، لم يتوقف. جهود فردية وجماعية، وعلى مستوى التجمعات الفلسطينية في كل زاوية في العالم، تمّت من أجل توضيح ما جرى لشعبنا، ولكن هذا كان يتم وسط جهود مضادة، ربما أكثر قوة ومزودة بماكينة إعلامية أكثر قوة وحضوراً وتجذراً في المجتمعات التي تعمل فيها، وبمصادر مالية قوية. كانت هذه الحرب موجودة دائماً من أجل تدعيم المطالب الوطنية، ولكن دائماً كانت تواجه بحرب مضادة قوية. النتيجة أن ثمة تحسناً وتطوراً في حضور الرواية الفلسطينية في العالم. ورغم ما قد يكون أصابنا من صدمة، فإن الحقيقة أن ثمة من يقول بقوة ويعبر بوضوح عن هذه الرواية، وفي قلب المكان الذي ظللته الجرائم البشعة التي ارتكبت فيه، على كل الحقائق الأخرى في التاريخ، وتم تسويق ما جرى من جرائم ومحارق بوصفه السبب المنطقي من أجل ذبح شعبنا. هذا المنطق المبطن غير الواضح في كل النقاش الذي دار. صحيح أن اليهود تعرضوا لمذابح ومحارق، إلا أن هذا ليس ذنب شعبنا الذي وحده ربما دفع ثمن هذه المجازر، حين بات ضحية الضحية عبر مذابح مضادة على حساب استقراره وأمنه وحياته الهادئة في بلاده. حين يتم ضمناً قول ذلك من ألمانيا، فهو يكتسب دلالات أخرى. الملك عريان هذه هي الحقيقة. ثمة بعبع مرعب تحدثنا عنه في المقال السابق يسمى «اللاسامية» وبعبع الاقتراب من تخوم رواية الهولوكوست. لا ذنب لنا فيما اقترف الآخرون ونحن ندينه ونشجبه دائماً، بل إننا أكثر حضارية من غيرنا؛ إذ لا نفرح بآلام الآخرين بل تؤلمنا، ولكن ما علاقتنا بكل ذلك. المذنب يجب أن يسأل نفسه. وعليه إذا أراد أحد احتكار الألم فهذا ليس من حقه، وإذا أراد أحد أن يحتكر «صفة» الضحية» فهذا ليس من حقه. هكذا يمكن ببساطة اختصار كل ما جرى. وهذا ما نقوله. لا نكره الناس، ولا نعتدي على أحد (مع تحوير قليل في قصيدة درويش)، لكنْ لنا حقوق من حقنا أن ندافع عنها.
هذا هو جوهر الرواية الفلسطينية، الذي يجب أن يكون مسنوداً بالبيانات والصور والمعلومات عن المذابح والتشريد وعمليات الإبادة الجماعية والمقابر الجماعية، التي تمت على طول البلاد شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، فلا يكاد كيلومتر من أرض فلسطين يخلو من دماء فلسطينية. من حقنا أن نتحدث عن هذا الألم لأن العالم عليه أن يركع طالباً للصفح والمغفرة عمّا اقترف بحقنا؛ حين ساعد الصهيونية على فعل ذلك، وما زال يساعدها من خلال صمته ودعمه لإسرائيل على حساب بقائنا في هذه البلاد.
هذا بحاجة للكثير من الجهد حتى لا تظل هذه الراوية متداولة بيننا ولا يعرفها العالم. فالأساس ليس أن نقنع أنفسنا، بل أن نقنع العالم مع أهمية أن ننقل كل هذه المسؤولية وضرورتها إلى الأجيال اللاحقة. حماية هذه السردية وتعميمها يجب أن يكون هدفاً مركزياً في النضال الوطني التحرري الفلسطيني، مع الاستفادة من كل التطور في مجال التواصل وتكنولوجيا المعلومات والسوشيال ميديا.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد