بطولات استثنائية وتضحيات جسيمة قدمتها حركات التحرر خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين الماضي، وتكللت باستقلال دول ما كان يسمى بالعالم الثالث، التي اجتمع معظمها فيما أطلق عليه مجموعة عدم الانحياز، وخير دليل على تلك البطولات والتضحيات، ما قدمته الجزائر وفيتنام، إلا أنه يمكن القول بكل ثقة، بأنه لولا وجود المعسكر الاشتراكي كداعم ومساند لحركات التحرر، وككابح لنهم الغرب الرأسمالي، ولنزعة الإمبريالية العالمية في السيطرة، لما تمكنت حركات التحرر من تحقيق الاستقلال، ولكان الغرب الإمبريالي أعاد تقسيم دول العالم فيما بين دوله، وإن لم يكن عبر الاستعمار المباشر، فمن خلال اعتبار الدول الأخرى ضمن نفوذه، تماماً كما فعلت كل من بريطانيا العظمى وفرنسا بعد الحرب العالمية الأولى.
ما نود قوله من خلال ذلك التقديم هو القول، بأن النظر الى أي صراع إقليمي، بمعزل عن التأثير الدولي، بل إن التعامل مع أي صراع أو نزاع بين دولتين أو بين شعب محتل ودولة احتلال، دون الأخذ بعين الاعتبار المؤثرات الإقليمية، يعتبر ضيق أفق، أو قراءة خاطئة، وإذا كان ما أشرنا إليه من مثال كل من الجزائر التي قدمت خلال ثماني سنوات ما بين عامي 1954_1962 مليوناً ونصف المليون شهيد، أما حرب فيتنام من أجل تحررها من الاستعمار الخارجي وتوحيدها فقد كلف نحو أربعة ملايين ضحية، من المدنيين والعسكريين، وذلك خلال نحو عشرين سنة، ما بين عامي 1955_1975، نقول اذا كان ما أشرنا إليه من مثالي الجزائر وفيتنام قد توج بالنصر، فإن فلسطين رغم ما قدمته من تضحيات وبطولات، خاصة خلال الخمس وخمسين سنة الماضية، أي ما بين عامي 1967 واليوم، إلا أنها لم تستقل بعد، والسبب بالتأكيد يعود الى أن المعسكر الاشتراكي تفكك، قبل انتصار حركة التحرر الفلسطينية.
أي ان العامل الدولي ومعه الإقليمي، نظرا الى تعقيدات خاصة، ونظراً إلى أن حركة التحرر الفلسطينية كانت قد اندلعت متأخرة نسبياً، أي مع بدء أفول شمس المعسكر الاشتراكي، ويمكن هنا التأشير إلى أن الانتفاضة الشعبية التي جعلت من الأرض الفلسطينية المحتلة ساحة القتال مع المستعمر الخارجي، قد اندلعت عام 1987، أي عشية سقوط جدار برلين، وتفكك الاتحاد السوفياتي، وسقوط كل الأنظمة الشيوعية في دول أوربا الشرقية، ورغم أن قيادة حركة التحرر الفلسطيني راهنت على وجود دولة فلسطين الديمقراطية بدعم من النظام الديمقراطي الغربي، إلا أن الرهان كان خاطئاً، فلم ينجح النظام العالمي أحادي القطب، حتى في فرض حل الدولتين الذي قال به، وفشل في إنجاز الحل السياسي، رغم انه رعى التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين الذي فرضته انتفاضة العام 1987.
وها قد مرت ثلاثة عقود على قيام النظام العالمي احادي القطب، والذي، وتلك إشارة ذات دلالة، ظهرت معه اتفاقية أوسلو، التي رسمت طريقاً للحل السياسي، جوهره إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأرض دولة فلسطين، والتعايش بالتالي ما بين الدولتين الجارتين، وتطبيع علاقات إسرائيل بدول الشرق الأوسط، العربية والمسلمة، وحيث إن أوسلو وصل إلى طريق مسدود، فإن الكفاح الفلسطيني عليه أن يغير من استراتيجيته، وحقيقة الأمر ان الشعب الفلسطيني، قد مر بعدة مراحل غيّر خلالها إستراتيجية الكفاح، أكثر من مرة، فقبل عام 1948، ومع وجود مقاومة جهوية فلسطينية، كان الرهان على الجيوش العربية، حتى كان عام 1948، وبعد فترة انتظار طويلة للحل القومي، انطلقت المقاومة المسلحة الوطنية عام 1965/1967، وكانت خارج حدود فلسطين، ورغم انها نجحت في وضع فلسطين على خارطة العالم السياسية، إلا ان انتفاضة العام 1987، صنعت استراتيجية جديدة، جوهرها الكفاح الشعبي، ومن على ارض فلسطين، ونجحت في فرض إقرار فكرة دولة فلسطين على إسرائيل نفسها، التي تريدها في أضيق نطاق ممكن، ربما في قطاع غزة .
وما دام حل الدولتين في طريقه للانغلاق، مع زرع نحو نصف مليون مستوطن في القدس والضفة الغربية، ومع إرهاصات النظام العالمي نحو نظام متعدد الأقطاب، يمكن القول، بأن فلسطين عليها ان تفكر في الكفاح وفق ظروف ما بعد النظام أحادي القطب، ذلك النظام الذي اعتبرت إسرائيل بحكم انحيازها له أصلاً، ذلك ان الغرب الاستعماري هو من أقامها وظل يحميها من حركة التحرر، ويشد على يدها الاحتلالية والعنصرية، إسرائيل اعتبرت انتصار الغرب في الحرب الباردة انتصاراً لها، ورغم انصياعها لعاصفة الانتفاضة، إلا انها احتفظت باحتلالها، وذلك في ظل نظام عالمي مساند لها.
لكن الأمور تتغير، ويمكن لنا أن نقارن ما فعلته الولايات المتحدة تجاه العراق قبل نحو عقدين، وما تفعله مع إيران، لنكتشف بأن التطابق أو ما كان يسمى بالتحالف الإستراتيجي بين أميركا وإسرائيل، في طريقه للتآكل، لأن أميركا نفسها تتغير من الداخل، ولأن مكانتها في العالم تتغير، وتعليق رئيس الموساد الإسرائيلي على الاتفاق النووي، المتوقع التوصل له، يؤكد بأن تطابق المصالح الأميركية مع المصالح الإسرائيلية، لم يعد كما كان، وان «تبني» أميركا لإسرائيل، ورعايتها التي استمرت منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، لن تبقى في قادم الأيام.
إسرائيل تقرأ المتغير الدولي الذي يلوح في الأفق جيداً، وهي لا تراهن على تفاوض يؤدي الى حل اليوم، بل على فرض واقع يجعل من انسحابها وبالتالي إقامة الدولة الفلسطينية على حدود الخامس من حزيران العام 1967 مستحيلاً، لكن عدم انسحابها يأخذها بالضرورة الى الاستمرار في تطبيق نظامها القائم على الفصل العنصري، وعلى فرض الحكم العسكري على الشعب الفلسطيني، ويكفي هنا ان يبدأ الشعب الفلسطيني بجمع البيانات والأدلة اليومية على عنصرية إسرائيل، حتى يجد العالم كله نفسه في موقع الكفاح ضدها، تماماً كما حدث مع نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا من قبل.
ويكفي للشعب الفلسطيني ان يبدأ بالمطالبة بالتعامل معه على قاعدة المساواة الإنسانية بين العربي الفلسطيني واليهودي الإسرائيلي، والبينات والأدلة على عنصرية إسرائيل يومية وكثيرة جداً، وآخر هذه البينات هو ما تنوي النيابة العامة الإسرائيلية القيام به، وهو إطلاق سراح المستوطن قاتل المواطن الفلسطيني علي حرب طعناً بالسكين، في الوقت الذي يسارع فيه جنودها إلى قتل أي فلسطيني أو فلسطينية يشتبه في نيته القيام بعملية طعن، فيما يحكم على كل من لا يتم قتله ميدانياً، ويتهم بمشاركته في قتل يهودي إسرائيلي بالمؤبد، وواقعة إغلاق ملف القضية ضد المستوطن قاتل علي حرب، تكشف أن إغلاق 92% من ملفات التحقيق في جرائم ارتكبها المستوطنون ضد الفلسطينيين ما بين عامي 2005 _2022 حسب منظمة «ييش دين»، أي هناك قانون، وهي منظمة إسرائيلية من المتطوعين في مجال حقوق الأسنان في الضفة الغربية، وهذه أدلة بسيطة ودامغة على عنصرية إسرائيل، وهي أداة كفاح فعالة لتفكيكها كدولة، وليس فقط لإنهاء احتلالها، فقط على الشعب الفلسطيني أن يبدأ كفاحه الجدي والمثابر ضد عنصرية إسرائيل حتى يتحرر من احتلالها.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية