93-TRIAL- ليست هناك منطقة في فلسطين تعرضت للظلم مثل قطاع غزة ، فقد شاء قدر هذه المنطقة البائسة أن تكون المسرح التراجيدي الأبرز لتصفية حسابات الكون، فعندما كان العالم العربي منقسما بين محورين وهميين "الممانعة والاعتدال" كانت غزة ساحة لملعبهم، وساعد في ذلك قصور الوعي السياسي لأبنائها الجاهزين للانسياق، وحين يختلف ضابطان في الجيش الإسرائيلي يصفون خلافاتهم على جسد غزة المثخن بالجراح، أو كلما كانت هناك دعاية انتخابية في تل أبيب كان القطاع مادتها الأقوى، وحين اختلف أبناؤها على السلطة دفع سكانها ثمن أكبر من طاقتهم.
على مدى التاريخ ليس هناك مكان تعرض للإغلاق لعقود متواصلة مثل قطاع غزة، فمنذ احتلاله منذ سبعة وأربعين عاما عزلته إسرائيل عن محيطه العربي وحولته إلى سجن كبير وفرضت قيودا على السفر من وإلى القطاع، إلى أن تأسست السلطة عام 94 بدأت تتحسن الحركة من خلال المعبر الوحيد الذي يربطه بمصر وبالعالم، ولكن الأمر لم يدم طويلا حتى بدأت الانتفاضة لنشهد حملة التنكيل الإسرائيلية وحشر الناس في حافلات لساعات طويلة والانتظار في رحلة تعذيب منظمة كانت تقوم بها إسرائيل كعادتها، ولم ينته هذا الكابوس إلا بعد خروج إسرائيل من غزة عام 2005 ليشعر سكانها بالحرية لأول مرة، ومرة أخرى لم يدم الأمر طويلا حتى استكثر أبناؤها عليها هذه الحرية حين اقتتلوا عليها بعدما أزاغ وهج السلطة أبصارهم قبل سبع سنوات ليعيدوا غزة إلى زنزانتها بعدما رأت النور لأول مرة.
ها نحن نعيش الذكرى الكئيبة... ذكرى الانقسام الذي خرج عن سكته الوطنية وسار متخبطا لسبع سنوات إلى أن نفد وقوده الآن ليرتطم بصخرة أكثر عنادا من نزوات الفصائل ومصالحها التي كانت وطأتها على سكان غزة أثقل كثيرا من أن تحتمل، إغلاق وعزلة جديدة واعتقال لمدة سبع سنوات، فهل كان عليها أن تفقأ عينها لتشعر بقيمة النور من جديد؟ أم كان على الإقليم أن يهتز بعنف حتى تعرف أنها لن تتمكن من الحياة طويلا معزولة عن بقية الوطن؟
ها هو الانقسام ينهزم... يطوي خيبته ويرحل بعد هذا الدرس الكبير والمكلل بالمرارة والدم والجوع والألم والدموع ويفترض أن يأخذ معه رحلة المعاناة الطويلة وأولها معاناة الطوابير التي اصطفت لسنوات تحلم بالانفتاح على العالم من جديد، بعد أن انخفض سقفها الوطني إلى مستوى فتح معبر رفح والذي أعلن على لسان رئيس وفد حركة فتح للمصالحة السيد عزام الأحمد أنه بمجرد تشكيل حكومة الوحدة سيبدأ تشغيل معبر رفح، وهذه حقيقة لأن المعبر كان ينتظر المصالحة ولأن إغلاقه كان فلسطينياً بامتياز.
فقد أغلقت مصر المعبر من جانبها لغياب الطرف الذي تعترف به في إدارة المعبر واستخدمت ذلك للضغط على حركة حماس ودفعها نحو المصالحة، صحيح أن ذلك كان مؤلماً للفلسطينيين الذي وقعوا بين المطرقة والسندان، ولكنه كان يقدم لهم خدمة على المستوى الوطني حتى لا تنفصل غزة وتتحول إلى إمارة مستقلة تشرعن نفسها من خلال انفتاحها على العالم وفقا للرؤية الإسرائيلية التي قدمها غيورا آيلاند ونفتالي بينيت رئيس حزب البيت اليهودي منذ أن كان مديراً عاماً لمجلس الاستيطان "يشع" ومؤتمر هرتسيليا التاسع، وعبرت عن الإجماع الإسرائيلي تجاه قطاع غزة التي قالت إن مصلحة إسرائيل الإستراتيجية أن يذهب قطاع غزة جنوبا.
والآن يأتي السؤال المشروع بعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية: لماذا لم يفتح المعبر؟ فكل يوم هو زيادة لمعاناة سكان القطاع الذين دخلت مصالحهم في حالة موت سريري منذ سبعة أعوام من مرضى وطلاب وتجار وزوار الخارج الذين يعيشون توقهم وشوقهم لزيارة أهلهم مع بدء الإجازة الصيفية وانتهاء الامتحانات، يحزمون حقائبهم بانتظار خطوة هي فلسطينية خالصة الآن على أحر من الجمر، يراقبون بمرارة ترف الوقت الذي يعيشه النظام السياسي بعيدا عن تلك المعاناة.
لم يعد هناك مبرر لاستمرار إغلاق المعبر واستمرار المعاناة، ووظيفة النظام السياسي أن يخفف تلك المعاناة لا أن يبقى شعبه معلقا على صلب الانتظار، ومن حقنا أن نسأل: ماذا ينتظر الرئيس؟ وماذا ينتظر رئيس الوزراء، فحركة حماس تقول في الغرف المغلقة أنها جاهزة لتسليمه والاستجابة لكل الشروط، وبهذا تكون قد انتهت مسؤوليتها وألقت الكرة في ملعب الرئاسة التي يفترض أن ترسل حرسها للبدء بتشغيل المعبر، وعليها أن تقدم إجابات مقنعة لسكان القطاع، وإلا فإنها تتحمل مسؤولية في زيادة تلك المعاناة.
ننتظر من حركة حماس أن تعلن على الملأ استعدادها للانسحاب من المعبر، وبالمقابل ننتظر من الرئاسة أن تتسلمه وتبدأ بتشغيله، فالأمر لا يحتمل مناورات أكثر من ذلك، ومن حقنا أن نفهم نحن سكان القطاع من الذي يمعن في تعذيبنا وتعطيل مصالحنا حتى بعد تشكيل حكومة الوحدة، ليعرف الشارع لمن يوجه اتهامه وضد من يصرخ وضد من يتظاهر، فالمصالحة التي انتظرها الناس لسنوات تعني لهم معبرا وكهرباء وفرصة عمل وكرامة وليس عناقاً متبادلاً بين حركتي فتح وحماس، لأن هذا الأمر هو آخر اهتماماتهم ولا يعنيهم وليس من سلم أولوياتهم سوى أنهم يعتقدون أنه الطريق نحو ما يحلمون به، لأن الانقسام في النظام السياسي صادر معه كل أحلامهم وحولها إلى كوابيس عاشوها في كل تفاصيل حياتهم حين اقتاتوا الجوع وأضاؤوا عتمتهم بالشموع ومضوا يعدون سنوات عمرهم في فتح معبرهم الوحيد، فهل سيفتح فورا، أم أن هناك ما يكفي من ترف الوقت؟ 119

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد