يقدر عدد حالات الاعتقال التي طالت الفلسطينيين منذ العام1967 بما يزيد عن المليون حالة اعتقال، وخلف هذا الرقم تكمن آلاف من قصص العذاب والألم والحرمان، فيما ما يزال يقبع في سجون الاحتلال الاسرائيلي نحو أربعة آلاف وخمسمائة فلسطيني، بينهم مئات الاطفال والنساء والفتيات، ولكل واحد من هؤلاء قصة وحكاية تملأ مجلدات؛ ومن بينهم مايزيد عن مئتين وخمسين اسير معتقلين منذ أكثر من عشرين عاما على التوالي، وهؤلاء يطلق عليهم الفلسطينيون مصطلح "عمداء الاسرى". وهذا الرقم مرشح للارتفاع مع قادم الايام. و"باسل" هو واحد من هؤلاء حيث انضم قسرا لتلك القائمة بعد ان اتم اليوم عامه العشرين في سجون الاحتلال الاسرائيلي بشكل متواصل.
باسل عريف..ض اسمٌ بات يعرفه الجميع، ويحفظه الأسرى والمحررون، ويذكره الناشطون والمتابعون لقضايا الأسرى، ويردده الشرفاء والمخلصون، فهو مناضل عنيد، حفر اسمه بأحرف من نور ونار على جدران الزنازين المعتمة، وكتب فصولاً من الصمود والتحدي خلال مسيرته النضالية، وشارك إخوانه الأسرى معارك الأمعاء الخاوية ومقاومة السجان بإرادة صلبة لم تلن، وعزم جبار لم يضعف، فحَفَر اسمه عميقاً في سجلات الحركة الوطنية الأسيرة.
ولد الأسير "باسل عريف" في الرابع من نيسان/ابريل عام 1982، وكان يقطن مع أسرته في حي الرمال غرب مدينة غزة ، فكبر وترعرع في عائلة مناضلة وبين أزقة وشوارع المدينة، وانتمى لحركة "فتح" منذ نعومة أظافره، وفي عام1998 التحق بجهاز الشرطة الفلسطينية وتلقى دورة تدريبية ومن ثم انتقل الى العمل في محافظات الضفة الغربية، ومع اندلاع انتفاضة الأقصى في سبتمبر عام2000، انضم إلى كتائب شهداء الأقصى الذراع العسكري لحركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"، وكان له من اسمه نصيب، فكان بطلاً باسلاً، شجاعاً، قاتل عدوه بشدة، وقاوم المحتل ببسالة ولم يأبه الموت، فسطّر صفحات من المجد والبطولة. وشارك في العديد من العمليات الفدائية، ولعل أبرزها المشاركة في قتل مستوطنين اسرائيليين داخل مستوطنة "عوفر" انتقاماً لاستشهاد صديقه ورفيق دربه "مهند حلاوة".
وفي التاسع عشر من آب/أغسطس عام 2002 وبعد مطاردة استمرت لشهور طويلة، تمكنت قوات الاحتلال الإسرائيلي من استدراجه عبر أحد العملاء واعتقاله والزج به في سجونها، فتعرض لصنوف مختلفة من التعذيب الجسدي والنفسي رغم الإصابة التي كان يعاني منها في يده اليمنى، وبعد ثلاث سنوات من التوقيف والاستجواب والعديد من جلسات المحاكمة، أصدرت محكمة عوفر الإسرائيلية العسكرية حكماً بحقه بالسجن المؤبد (مدى الحياة) مرتين إضافة إلى 52 عاما.
ومنذ اعتقاله قبل عشرين سنة تنقل بين عدة سجون إسرائيلية وقضى سنوات متفاوتة في عسقلان وبئر السبع وهداريم وايشل ونفحة، ومكث فترات طويلة في زنازين العزل الانفرادي، وحصل على شهادة الثانوية العامة وشهادة البكالوريوس في العلوم السياسية داخل سجنه، فيما يقبع الآن في سجن نفحه في صحراء النقب جنوب فلسطين المحتلة.
وتمر الأيام والشهور وتمضي معها السنين، وتُقضى الأعمار خلف قضبان السجون وتحل الذكرى العشرين لاعتقال "باسل عريف" في التاسع عشر من آب/أغسطس الجاري ليدخل عامه الواحد والعشرين بشكل متواصل، والألم يزداد والوجع يتفاقم، ومعاناة باسل وأسرته تتسع، ولسان حالهم يقول: رفقاً بنا أيها السجن اللعين، فألا يكفي ما ألحقته بنا من ألم وقهر وحزن جراء ما تفرضه علينا وعلى أبنائنا من قيود، فو الله ما عاد في الروح متسع، وما عاد بمقدورنا تحمل مزيداً من الوجع. ولعل ما يخفف من وجعنا هو ذاك الأمل الذي يتعاظم يوما بعد يوم باقتراب اتمام صفقة تبادل جديدة وانتصار يكسر قيد المؤبدات، وتنجح من خلاله المقاومة الفلسطينية في اطلاق سراح رموز المقاومة.
ولعل المعاناة لا تقتصر على "باسل" وانما تمتد لتشمل الاسرة، فالأم لم تكن تعلم وهي حامل بجنينها، بأنها ستُنجب نجلها البكر ليقضي نصف عمره، ولربما أكثر من ذلك، خلف قضبان السجون ووراء الشمس. ولم يكن لوالده أن يتوقع، ولا حتى في اسوأ الكوابيس، أن يكون ذاك اللقاء ب رام الله عام 2000 هو الأخير بينهما، ولم يكن يتخيل "ابا باسل" أن ينتهي بهم الحال الى فراق طويل بدأ قبل أكثر من عشرين سنة ولم ينتهِ بعد، بفعل المحتل والسجن الإسرائيلي ومنع زيارات الأهل بذريعة ما يُصطلح على تسميته بـ "المنع الأمني"، في ظل صمت وضعف وتراجع دور المؤسسات الدولية.
فكم كانت صعبة لحظة الفراق تلك، وكم هو قاسي ومؤلم استمرار الحرمان من رؤية الحبيب والعزيز. فالفراق حزن كلهيب الشمس، وفراق الابن من أصعب حالات الفراق. فكان الله في عونك أخي وصديقي أبو باسل وأنت تتابع أخبار الأسرى المقلقة وظروف احتجازهم القاسية واستمرار الاهمال الطبي المتعمد في ظل الاستهتار الإسرائيلي المتصاعد بحياة الأسرى وأوضاعهم الصحية، دون أن يُسمح لك بزيارته ولو مرة واحدة. وكان الله بعونك أخي "باسل" وان تقضي العام تلو الآخر خلف القضبان وقد اتممت اليوم العشرين عاما دون ان يسمح لك باستقبال والدك ورؤية وجهه عبر زيارات الاهل التي تعتبر حق مشروع للاسير وذويه وفقا للقانون الدولي. وبدون شك فإن المعاناة تتفاقم لدى باسل وذويه، في ظل الظروف الصعبة التي يحتجز فيها الاسرى وتلك التي يعيشها الاهالي في قطاع غزة، مما يؤكد على ان الاسرى هم ليسوا وحدهم ضحايا الاعتقال والسجن، وانما عائلاتهم هم ضحايا ايضا.
وبالرغم من مرور عشرين سنة من الاعتقال والألم والحرمان، يبقى "باسل"، هو ذاك المناضل الصلب الذي عرفناه وقرأنا عنه. باسل الشجاع، منتصب القامة يمشي بين جدران السجن ولم يَنحنِ، ورأسٌ شامخٌ لم يطأطئ، وعنفوانٌ كبيرٌ لم ينكسر رغم سنوات الأسر الطويلة، ومناضل يتسلح بأمل الانتصار وكسر القيد. ويقُولون مَتى هُو. قُل عَسى أن يَكون قَريبًا.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية