العالم يتغيّر ولكن ليس كثيراً. كان واضحاً أن للحرب الروسية على أوكرانيا حدوداً أبعد من تخوم أوكرانيا، وأن القصف الروسي ليس موجهاً بشكل محدد ضد أوكرانيا، بل ثمة قصف روسي أكبر نحو النظام العالمي الجديد الذي لا بد أن يتغير. لم تكن الأزمة الروسية الأوكرانية جديدة، والصراع ظهر قبل ذلك بسنوات وأنذر بانفجارات دوّت بصوت مرتفع، لكن ظل شيء تحت الرماد يشتعل ليتقد في اللحظة المناسبة. فبعد سنوات وسنوات على الهيمنة الأميركية أحادية القطب على شؤون الكوكب، وبعد ما أنزلته واشنطن بالقوى الأخرى من إهمال وإهانة، صار لزاماً التحرك نحو الاشتباك من أجل تغيير قواعد اللعبة: القواعد التي وضعتها واشنطن، وطبقتها بقوة في غفلة، فيما القوى الأخرى تلملم جراحها بعد انتهاء الحرب الباردة.
لم تكن الحرب الباردة حرباً بالمعني العنيف، لكن نتائجها كانت على روسيا مثلاً أشد فتكاً من الحرب المدمرة، إذ إن الجمهوريات تفككت وتقاتلت من أجل استقلالها، وبعضها صار يخطب ودّ العدو اللدود خلف المحيط. انهار الاتحاد السوفياتي كما انهار جدار برلين. انهيارات أعنف من انهيار الدول تحت دوي المدافع. تعزز هذا مع تفكك كل المنظومة الشرقية في أوروبا، ولهاث النخب ما بعد الحرب الباردة للانضمام لحلف الناتو أو لنادي الاتحاد الأوروبي.
صارت الدول الشيوعية أكثر رأسمالية من لندن، وصار همها الأكبر أن ترضى عنها واشنطن وبروكسل. وبقدر ما شكل هذا تحولاً كبيراً في معادلة ظلت ثابتة لعقود، بقدر ما كان إهانة لا توصف لموسكو. التحولات عنت بشكل أساس فشل النموذج الذي كانت تقوده موسكو. النموذج بشقَّيه الاقتصادي والسياسي. فالمعسكر الشرقي لم يعد موجوداً، وصار هناك معسكر واحد في العالم: المعسكر الذي تقوده واشنطن. حتى حلفاء موسكو في الشرق الأوسط شهدوا وقتها تراجعاً كبيراً. صار العالم حانة يحكمها شرطي أميركي، حيث لا يسمح لأحد أن يثير المشاكل في أزقة الحي دون موافقة هذا الشرطي. وانتقلت الطائرات والبوارج الحربية الأميركية تقصف من أميركا اللاتينية إلى الشرق الأوسط إلى وسط آسيا إلى أفريقيا السوداء.
لم يكن المشهد ساكناً طوال الثلاثين سنة التي مضت، والتي تلت سقوط جدار برلين. كان العالم يتحرك، لكن ببطء. بدأت قوة الصين بالصعود التدريجي. كما ظهرت قوى إقليمية أخرى في آسيا، تحديداً الهند، ومؤخراً تنامي دور تركيا، وصعود حضور إيران وانتقال تأثيرها من الشرق الأوسط إلى مناطق أخرى في العالم. وربما يمكن إضافة وجود ما يعرف بالفاعلين من غير الدول، أي المنظمات الجهادية أو سمّها ما شئت، والتي باتت تتمكن من حكم أجزاء من الدول، أو شن حروب دون أن يعرف أحد شكلاً لها.
هذا التحرك المستمر أوصل إلى هذه اللحظة، والتي لا بد فيها من عودة بعض القوى الكلاسيكية للمسك بالفرجار؛ من أجل رسم دوائر العلاقات المطلوبة.
صحيح أن واشنطن قصفت كابول، ودمرت بغداد، وذهبت إلى الصومال، ولعبت في أميركا الوسطى، وصحيح أن الأسطول الأميركي هو الأكثر حضوراً في البحر المتوسط والخليج العربي بجانب أماكن حضوره الكلاسيكية في المحيطات، لكن الصحيح الآخر أن قدرة واشنطن على الردع تراجعت. لم تعد واشنطن تلك القوة الساحقة؛ لأن مفهوم الردع في العالم تغيّر، والمقدرة على الإيذاء تبدلت، وصار من السهل إيقاع إيذاء بأعتى قوة في العالم دون أن تمتلك القوة المتكافئة. الحديث يدور عن صراع السايبر، وتشفير المواقع والتحكم بها عن بعد، وحتى تشويش المطارات ومحطات القطار، من خلال جهاز موبايل صغير يبرمجه شخص من زاوية نائية في العالم.
مفهوم الضرر تحوّل، وبكلمة أخرى مفهوم الحرب تغير. لم تعد بحاجة لجيوش جرارة من أجل تنتصر في حرب، كما لست بحاجة لإيقاع ضرر مادي كبير من أجل إيذاء أكبر للخصم، إذ إن التشويش المالي، والمساس بالبورصة والقطارات والمطارات كل ذلك يلحق أضراراً أكثر فتكاً من قصف المدن. لذلك، فإن الكثير من دول العالم بدأت تقلّص جيوشها، وتسعى لإدماج معدات القتال التي يتم التحكم فيها عن بعد عبر "النانو تكنولوجيا" مثل الطائرات الزنانة والروبوتات المقاتلة والدبابات بلا سائق، وكل ذلك.
صحيح أن التركيز الأكبر الآن على ما يجري في أوكرانيا، التي يبدو أن موسكو لا تريد أن تحسم الحرب معها بطريقة سريعة؛ لأن استسلام أوكرانيا وحده لن يكفي، إذ إن المقصود تغيير شكل علاقات موسكو مع العالم، خاصة وقف زحف الناتو ووقف تهديد أميركا المستمر للعالم، ولكن أيضاً لا تستهينوا بالتوترات التي تحاول أن تخلقها بكين مع واشنطن. صحيح أن الأولى لن تذهب لحرب، لكنها لا تتورع في التأكيد أنها لا تستبعد ذلك دفاعاً عن مصالحها. بكين الآن باتت لديها قوة اقتصادية وعسكرية لا يمكن إغفالها. ومن الواضح أن موضوع الاصطفاف تم حسمه؛ إذ إن العالم غير الأوروبي بات يدرك أن ثمة مهمة أخلاقية بتحجيم قوة وحضور واشنطن في العالم.
أيضاً لا يمكن الاستخفاف بتنامي الحضور التركي. الوساطة التركية الأخيرة في قضية القمح وتصديره ليست اعتباطاً، والفرصة التي منحتها موسكو لأنقرة مقصودة بشكل كبير. لأن هناك عالماً لا بد أن يتخلق بعد انتهاء الحرب لأنقرة حضور كبير فيه. حضور سيشكل تتويجاً لحقبة أردوغان التي بدأها بتصفير الأزمات، وانتهت إلى التدخل الفج في شؤون الآخرين لإعلان القوة والحضور والتأثير.
قد لا يحدث التغيير المطلوب بميزان القوى في العالم، لكن العالم يتغير باتجاه دفع هذا الميزان وتحطيمه، دون المساس بالاستقرار والسلم العالميَّين، بمعني دون حرب كونية ثالثة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد