فجأةً تحدّث أكثر من مسؤول أمني إسرائيلي عن أن الاتفاق النووي مع إيران، بات جيداً، أو أنه أهون الشرين، وذلك بعد أن نجحت إسرائيل طوال عام مضى، أي منذ آذار من العام الماضي، في عرقلة التوصل لاتفاق نهائي بين الولايات المتحدة وإيران ي فتح الباب للعودة بالعمل بالاتفاق الموقع عام 2015، ويبرر القادة الأمنيون الإسرائيليون تغير الموقف على أساس أن مواصلة إيران تخصيب اليورانيوم، ومتابعة ملفها النووي دون الاتفاق، أي دون الرقابة الدولية، يجعلها على بعد فترة وجيزة من امتلاك السلاح النووي، وأن العودة للاتفاق تقطع الطريق على تلك المتابعة، في الوقت الذي تسمح فيه لإسرائيل بمنحها وقتاً للاستعداد العسكري للتدخل فيما بعد، وضرب إيران أو لتدمير مفاعلها النووي، كما سبق لها وأن فعلت مع المفاعلَين العراقي والسوري، قبل سنوات.
هذا القول يثبت أولاً أن الحصار الاقتصادي، أو العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة منذ العام 2018، أي منذ أن علق الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب العمل باتفاق 2015، قد فشلت، أو أنها لم تحقق الهدف منها، لا في إسقاط النظام، ولا في الضغط على طهران للتوقف عن متابعة العمل من أجل الحصول على الطاقة النووية لتحديث البلاد، وإطلاق اقتصادها، وعدم الاقتصار على المنتج النفطي فقط، وثانياً، على أن سياسة الاغتيالات التي اتبعتها إسرائيل بحق العلماء النوويين الإيرانيين، وحتى بعض القادة العسكريين، والتي كانت تهدف في الفترة الأخيرة الى إفقاد طهران لعقلها، والبدء بتوجيه الضربة العسكرية ضد إسرائيل لتكون مبرراً ليس للرد العسكري الإسرائيلي، ولكن للتدخل العسكري الأميركي وربما الدولي، قد فشلت هي أيضاً.
أما إدارة الرئيس جو بايدن، والتي شرعت فور دخولها البيت الأبيض، بالتفاوض على العودة لاتفاق 2015، بهدف إغلاق الملف الإيراني والتفرغ لمقارعة روسيا، كما كان قد حدد بذلك بايدن الخطوط العامة لسياسته الخارجية منذ لحظة دخوله البيت الأبيض، فقد سارعت الى الانشغال بالملف الروسي، قبل أن تغلق الملف الإيراني تماماً، وذلك بسبب العرقلة الإسرائيلية _كما أسفلنا أعلاه_ لذا فإن تصريحات القادة الأمنيين الإسرائيليين المشار إليها، تخفف الضغط عن بايدن، وسمحت فعلاً بالحديث عن العودة للتفاوض، وفي قطر هذه المرة بدلاً من فيينا، كما تعتبر حافزاً للرئيس الأميركي وهو في طريقه الى الشرق الأوسط، حيث سيقاتل من أجل عدم انهيار استراتيجيته في مقارعة روسيا، القائمة على أساس الحصار الاقتصادي، ورأس حربتها هو قطع طرق إمداد النفط والغاز الروسي لأوروبا.
ولأن الشتاء الأوروبي القارس على الأبواب، فإنه إن لم يتم فورا وبأسرع وقت ممكن، وقبل نهاية العام، توفير وصول البديل عن نفط وغاز روسيا، فإن أوروبا لن تلتزم بالمقاطعة الأميركية للاقتصاد الروسي، وبذلك يكون بايدن قد خسر المعركة بالضربة القاضية، لذا فإن واشنطن تركز على أن يكون البديل من الشرق الأوسط، توفره السعودية من جانب النفط، وكل من إسرائيل ومصر من جانب الغاز.
لذا كان الاتفاق قبل أسابيع بين مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي على توريد غاز الدولتين الشرق أوسطيتين لأوروبا، فيما يحتاج بايدن لإقناع السعودية بضخ المزيد من النفط لتعويض النفط الروسي.
ولأن إسرائيل غير قادرة على ضخ الكميات اللازمة لاحتياجات أوروبا من الغاز، فقد تمت الاستعانة بمصر، في الوقت الذي تسعى فيه إسرائيل لاستغلال الفرصة، وهي التي تحتاج وقتا حتى تجد الأسواق لما هو متوقع من قدرتها على إنتاج الكميات الهائلة من الغاز الذي اكتشفته قبل بضع سنوات في بحر المتوسط، ولأن السوق القريبة منها، اي الشرق الأوسط نفسه منتج للنفط والغاز، فأن تكون بديلاً عن روسيا في تزويد أوروبا بالغاز يعتبر فرصة تاريخية لها، لكن ذلك يحتاج الى غاز جاهز أولاً، والى وسائل الإمداد بسرعة ثانياً. لذا فإن إسرائيل لم تنتظر أن تنتهي من التفاوض مع لبنان بالرعاية الدولية حول الحدود البحرية التي تحدد منطقة كل طرف، وخاصة حقل كاريش المتنازع عليه بينهما، فسارعت على البدء فوراً بالتنقيب في الحقل المذكور، ما دفع الى توقف المفاوضات بين البلدين، مع ظهور حالة من التوتر الشديد بينهما.
ولأن لبنان يعاني حالياً من وضع اقتصادي هش للغاية، فيما يعتبر حزب الله قوته العسكرية الضاربة، فقد ظهرت لغة التهديد بين إسرائيل وحزب الله، الحزب من جهته أعلن بأنه جاهز للدفاع عن حق لبنان بمياهه الإقليمية وبثروته الطبيعية من الغاز، فيما استخدمت إسرائيل لغة بالغة العنف في التهديد وصلت الى حد التهديد باجتياح مدن صور وصيدا وصولاً الى بيروت وذلك على لسان وزير الجيش بيني غانتس .
حزب الله هدد بضرب منصات الغاز في حال استمرت إسرائيل بالتنقيب في كاريش التي يعتبرها الحزب بل لبنان كله على انها منطقة متنازع عليها، اي تدخل ضمن مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، ولا يجوز لإسرائيل التنقيب فيها قبل التوصل لاتفاق ترسيم الحدود، فيما أكدت وزيرة الطاقة الإسرائيلية على أن إسرائيل ستواصل التنقيب في المنطقة المذكورة غير آبهة بتهديد حزب الله، وملوّحة بأن إسرائيل جاهزة لأي سيناريو عسكري.
وقد أكد وزراء الدفاع والخارجية والطاقة الإسرائيليون في تصريح مشترك على ان حقل كاريش ملك لإسرائيل، ودعوا لبنان للتسريع بمفاوضات ترسيم الحدود ملوّحين بحاجة الاقتصاد اللبناني لمصدر الطاقة الذي يمكن أن يخرجه من أزمته الطاحنة. وبذلك يبدو «كاريش» كما لو كان حقل ألغام بين الطرفين، وليس مجرد حقل غاز، فهو يعتبر حالياً بمثابة صاعق يمكنه بأي لحظة أن يشعل الحرب بين الطرفين، نظراً لحالة التوتر المتواصلة بينهما، والتي قد تنتقل من الأرض السورية للأرض اللبنانية، خاصة وأن كلاً من إسرائيل ولبنان يمران بمعادلة سياسية داخلية صعبة، لجهة عدم تحقيق حكومة مستقرة في كل منهما، ونظراً لأن إسرائيل التي تأكدت من عدم قدرتها على جر أميركا لحرب عسكرية مباشرة مع إيران، تضطر الى مواجهة إيران عسكرياً في مناطق أخرى، منها سورية حالياً، وقد تكون لبنان بحزب الله ساحتها التالية.
وفي الحقيقة فإن إيران بحاجة الى الرد على الاغتيالات الإسرائيلية التي جرت على أرضها، فيما حزب الله بحاجة الى كسر حدة الجمود في لبنان، وإعادة سطوته، اما إسرائيل فإنها بحاجة ماسة الى تأكيد كل ما حققته من تطبيع بتفوق اقتصادي خاصة لجهة إنتاج الموارد الطبيعية، لأنها تعلم بأن مصدر القوة اليوم لم يعد مقتصراً على القوة العسكرية فقط، لكن مع ذلك فإن الجانبين ما زالا يفضلان التوتر والمعارك المحدودة على الحرب الشاملة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية