كل ما يتمّ الحديث عنه حول زيارة الرئيس الأميركي للمنطقة وأهدافها تحديداً ليس سوى أنصاف حقائق، وليس أكثر من عناوين لقضايا تمّ الانتهاء منها ولم يتبقّ سوى الترسيم.
هذا فيما يتعلق بالقضايا الكبيرة، أما القضايا الفرعية أو المتفرّعة عن هذه القضايا فهي حافلة ومكتظة وكثيرة، أيضاً.
واضح أن الرئيس بايدن قد «تجاوز» كل ما قاله، وكل ما كان صرّح به، وكل ما تعهّد به حول «قضية» وليّ العهد السعودي التي ظهرت إلى العلن بُعيد مقتل «خاشقجي»، تماماً كما هو واضح، أيضاً، أن القيادة السعودية لم تكن على استعداد «لإتمام» هذه الزيارة قبل تجاوز الرئيس الأميركي لتلك القضية.
وواضح للغاية أن هذه الزيارة لم تكن لتتمّ لولا تداعيات الحرب في أوكرانيا على أزمة الطاقة العالمية، وحول أزمة الغذاء، أيضاً، ولم تكن لتتمّ بالتأكيد لولا الفشل أو التأجيل والإرجاء للاتفاق النووي مع إيران، ولولا أن الإدارة الأميركية قد تراجعت في اللحظات الأخيرة عن التوقيع عليه.
باختصار فإن الولايات المتحدة تستهدف من خلال «جولة» الرئيس الأميركي إنجاز ما تخطط لإنجازه في السعودية تحديداً، وبوساطة الدور الذي تريده من السعودية على وجه الخصوص والتحديد.
أما زيارة تل أبيب و رام الله فهي زيارة فرعية وعلى هامش الأهداف الحقيقية لجولة الرئيس، ليس أكثر.
بخصوص زيارة تل أبيب، الأمور لا تحتاج إلى زيارة على هذا المستوى، إذ إن الأمور تسير وفق درجةٍ عالية من التفاهم، حيث تواصل حكومة نفتالي بينيت عربدتها في المنطقة نهباً، واستيطاناً، وتنكيلاً وتهويداً مقابل بيان يستنكر هنا، وآخر يأسف هناك، ثم ما تلبث أن تعود الأمور إلى طبيعتها من التوافق والتناغم والانسجام.
وبخصوص إمكانيات اندلاع أو الانزلاق إلى حربٍ في منطقة الإقليم فهناك ما يكفي من التفاهم حول متى وكيف ولماذا ستندلع، بما في ذلك أدقّ التفاصيل العسكرية والأمنية والفنية إذا لزم الأمر، وعندما يحين أوانها وتتحدّد ساعتها.
أقصد أن المستويات العسكرية والأمنية هي التي تشرف بصورة مباشرة على كل هذه الجوانب، والقرار السياسي بشأنها لا يحتاج إلى زيارة من الرئيس بايدن لأن قرارات من هذا القبيل لا تحسم في الزيارات.
ناهيكم عن أن الائتلاف الحكومي في إسرائيل يترنّح، وهو آيل للسقوط في أي لحظة، ولا يرتبط قرار الحرب من عدمه بمدى «تماسك» الائتلاف، ولا حتى بتشكيلته السياسية، لأن القرار بشأن الحرب الإقليمية هو أعلى من أن تأخذه أي حكومة في إسرائيل بمعزلٍ عن مؤسسة الدولة فيها.
فمن كل هذه الزوايا لا يوجد لزيارة الرئيس بايدن أي أهمية عاجلة أو راهنة أو خاصة في الأجواء القائمة أو الجارية هذه الأيام، والحديث حول «حيادية» إسرائيل من الحرب في أوكرانيا خرافة غير مسلّية على الإطلاق.
أما زيارة رام الله فهي ليست أكثر من زيارة مجاملة سياسية، وهي أقرب إلى زيارة رفع العتب، بما في ذلك الديباجة المعروفة حول «تمسك» الولايات المتحدة بـ «حل الدولتين»، وحول حق الشعب الفلسطيني بالكرامة والأمان، وغيرها من الأوصاف والمسمّيات التي تعني في النهاية «تحسين» معيشة السكان الفلسطينيين في إطار «حكمٍ ذاتي» محدود الصلاحيات، وتحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية.
هنا، أيضاً، لا يوجد ما هو أبعد من إعادة المساعدة الأميركية إلى ما كانت عليه أو أقلّ مما كانت عليه، ولا يوجد سوى بعض الوعود الفارغة من أي مضمون.
أمّا زيارة القدس الشرقية فستكون (إن تمّت) محاولة «للإيحاء»، وليس أكثر من إيحاء، بأن الإدارة الحالية ليست متطابقة بالكامل مع سياسة الإدارة السابقة حول القدس، ولكنها (أي إدارة الرئيس بايدن) لا تملك سياسة مغايرة إلّا من حيث بعض الاعتبارات الرمزية والشكلية.
لهذا فإن «جولة» الرئيس الأميركي هي لزيارة العربية السعودية أساساً، وزيارة تل أبيب ورام الله ليست سوى «تعريجة» لإضفاء طابع الجولة على هذه الزيارة.
هنا يقع الهدف، وهنا بيت القصيد.
سأبدأ بالقول إن كل ما تمّ من عمليات تطبيع، ومهما بدت فاقعة في هذا المظهر أو ذاك، وحتى عندما بدت وكأنها تجاوزت كل الحدود، ومهما بلغت أحياناً من أشكال وصلت إلى حدود الابتذال والافتقاد إلى الكرامة، ومهما كان بعض تعبيراتها مؤلماً لجهة ما وصلنا إليه من ذلٍّ ومهانةٍ وهوان.. إن كلّ ما تمّ حتى الآن ليس سوى مقدمات لما تنوي عليه، وتراهن عليه، وتعمل عليه، وتخطط له الإدارة الأميركية من استهدافات تقف خلف هذه الزيارة للسعودية.
هناك هدفان كبيران، وكل واحد منهما أكبر وأخطر من الثاني لهذه الزيارة.. الأول، يتعلق بالحرب الدائرة في أوكرانيا، والثاني، يتعلق بإقامة حلف أمني جديد، معلن ورسمي ستتم مأسسته وتكريسه، وسيتم تغيير كامل المشهد السياسي في الإقليم بعد انطلاقه.
في إطار الهدف الأول ـ وهو موضوع شائك ويحتاج إلى معالجات موسّعة لاحقة من طيفٍ واسع من القادرين عليه ـ فإن الولايات المتحدة قد شعرت برعبٍ حقيقي من «عدم» امتثال بعض العرب، وبعض العرب في الخليج تحديداً «للأوامر» الأميركية في الوقوف ضد «الغزو» الروسي لأوكرانيا.
نعم شعرت بالرعب لأن «العرب» هم الأمّة الوحيدة في هذا العالم التي لا تقول كلمة (لا) واحدة لأميركا.
ليس هذا فقط، فقد شعرت الإدارة الأميركية في ظل أزمة الطاقة التي تولّدت عن تلك الحرب بأن الأهمية الوحيدة لهذه الأنظمة العربية إنما تكمن في قدرة الولايات المتحدة ليس فقط في السيطرة على موارد هذه الأنظمة، وإنما في إدارة أزماتها، وأزمات العالم في مجال الطاقة بوساطة امتثال العرب الكامل للعبة الأميركية المعهودة هنا.
شعرت الولايات المتحدة أن هيبتها في الميزان، وقيادتها في الميزان، وشعرت أن من شأن عدم تدارك الأمور بسرعة سيؤدي إلى أضرارٍ أكبر، وأكبر مما تستطيع الولايات المتحدة تلافيها أو تجنّبها.
ولذلك فقد تراجعت عن الاتفاق النووي الإيراني إرضاءً لإسرائيل أولاً، ولهؤلاء العرب ثانياً، مقابل ما سيتم إنجازه أثناء الزيارة.
بل وأبعد من ذلك فقد وافقت ـ ولا بدّ أنها وافقت بعد محادثات خاصة ومطوّلة، على وضع ملف «حقوق الإنسان» جانباً، والاكتفاء بكلام لا يعني أي شيء على الإطلاق، وإغلاق «ملف» ولي العهد السعودي، وتتويج هذا الإغلاق باستقبال ولي العهد للرئيس الأميركي.
الهدف الثاني، والذي قد «تبلور» بعد معالجة الهدف الأول، هو عقد لقاء عربي أميركي ينتج عنه إعلان حلف عربي إسرائيلي، تقوده وتشرف عليه الولايات المتحدة الأميركية ضد إيران، «تؤمّن» من خلاله القوة التنفيذية العسكرية والأمنية المباشرة وهي إسرائيل حماية «العرب» بمظلّة نووية أميركية وإسرائيلية مشتركة ضد التهديد «النووي» الإيراني المحتمل، مقابل أن يقبل العرب ويوافقوا على «الفهم» الأميركي الإسرائيلي لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وفق رؤية الحل الاقتصادي والمعيشي «المطعّم» ببعض مظاهر «الحكم الذاتي» المقلَّص والمقيَّد بالاعتبارات «الاستراتيجية» الأمنية الإسرائيلية.
باختصار، زيارة الرئيس بايدن هي أكبر عملية اختراق سياسي بعد اتفاقيات «كامب ديفيد»، و»اتفاقيات السلام»، و»اتفاقية أوسلو»، بل هي أخطر منها كلها لأنها منفردة ومجتمعة لم تصل إلى حدود الحلف الاستراتيجي الأمني الشامل.
بقيت كلمة واحدة نقولها لكل القيادات الفلسطينية، الشرعية والرسمية ولكل السلطات القائمة على جانبي البلاد، والمتحكّمة بواقع ومصير العباد، ولكلّ القوى والأحزاب والمنظمات الصغيرة قبل الكبيرة: إن القضية الوطنية في خطر، وليس أي خطر، إنه الخطر الوجودي المحدق بنا كشعب ووجود، وحاضر ومستقبل.
إذا استمررتم في لعبة الصراع على السلطات، وعلى مقاعد الجامعات، وعلى ما هبّ ودبّ من الصغائر والمكتسبات، وعلى الصلاحيات والمناصب والمراتب وعلى المنح والشنط والاقتسامات والتقاسمات، فاعلموا أنكم بذلك قد تركتم لأعدائكم فرصة الإجهاز علينا وعليكم، وعلى حقوق شعبنا وأهدافه وأمانيه، ولن تجدوا بعد حين من يلعب في ملاعبكم.
فهل نغنّي مثلما كنّا نغنّي، أم نعلن في القبائل....

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد