قام الرئيس محمود عباس ، أول من أمس، بتكريم الفنان التشكيلي فتحي غبن بمنحه وسام الثقافة والعلوم والفنون، تقديرا لدوره الريادي، وحسه الفني الرفيع ومسيرته الفنية الحافلة بالأعمال، التي وصلت إلى العالمية، ونجحت في تصوير الهوية الفلسطينية، وتجسيد مسيرة اللجوء، ومعاناة شعبنا وتمسكه بتراثه وجذوره وأرضه كما ورد في نص التكريم كما هو كم هو منشور. كما يقيم متحف محمود درويش معرضاً للفنان ويحتفل به في ندوة حوارية.
فتحي غبن واحد من ابرز الفنانين التشكيلين الفلسطينيين المعاصرين. إنه من ذلك الجيل الذي حمل على عاتقه ترسيخ مسيرة الفن الفلسطيني في النصف الثاني من القرن العشرين من ثلة من الفنانين الكبار سواء داخل الأرض المحتلة أو خارجها. لكن المؤكد أن فتحي غبن نجح في ترسيخ اسمه في صدارة أي حديث عن الفن التشكيلي الفلسطيني عبر لوحاته المؤثرة عن الحياة الفلسطينية في القرية الفلسطينية قبل النكبة أو في المخيم بعد النكبة. فالطفل الذي هاجر من قرية هربيا (شمال غزة على حدود بيت لاهيا) وهو لم يبلغ العامين بعد ظلت الخوابي وأفران الطابون وحقول الذرة والقمح تغزو ذاكرته مثل صورة باهتة عن حياة غامقة وعميقة في الوعي. فتحي نجح بصورة كبيرة في حمل هذه الصورة عبر ألوانه المائية القوية وخطوطه البارزة وتجسداته الحيوية إلى الأجيال القادمة حيث يمكن لمن يتتبع مسيرة فتحي غبن الفنية ويتأمل لوحاته بمراحلها المختلفة أن يتعرف على القرية الفلسطينية بكل تجلياتها ويستكشف الحياة الفلسطينية بصورها المختلفة. كأن مسيرة فتحي غبن الفنية هي مسيرة القرية الفلسطينية الضائعة في أتون النكبة. وكأن فتحي غبن يريد أن يقدم للذاكرة الفلسطينية وللوعي الفلسطيني سرداً مختلفاً عن الحياة الفلسطينية مثله مثل الشعراء الذين وصفوا قراهم ومدنهم شعراً أو الروائيين الذين استحضروا تفاصيل الأماكن بدقة متناهية.
فتحي أراد أن يكون وفياً ليس فقط لذاكرته بل لذاكرة شعب لم يرد له أن يموت. كما يمكن أن يتم تجميع قسط كبير من لوحات فتحي ووضعها متجاورة ليتمكن الناظر من أن يرى القرية الفلسطينية بمواسمها المختلفة فمن المرأة التي تخبز في فرن الطابون إلى الزفة الفلسطينية إلى العرس الكنعاني إلى المطحنة إلى الحصيدة والأجران إلى الطبيعة الآخاذة إلى بئر الماء وسط القرية إلى العجوز تقطف حبات الجميز عن الشجرة في هربيا. كل ذلك يقوم فتح باجتراحه بكثير من الفرح الذي يكشف كيف كانت الحياة في فلسطين ساحرة كما أهلها. إن الفرح الممزوج بالألم المخبوء بصمت خلف تقاسيم الوجه الضاحك أو حركة اليد الجذلة. وفتحي بذلك هو الكاميرا الحياة للذاكرة الفلسطينية التي تريد أن تكون واقعاً معاشاً رغم ما أعملته بلدوزارات الاحتلال من دمار وتقتيل وتشريد.
الجزء الثاني من لوحات فتحي هو ذلك الجزء المتعلق بحياة المخيم التي أصر فتحي على أن يرسمها بقوة وإصرار هما سمة اللاجئ الفلسطيني الذي يعيش الحياة ما استطاع إليها سبيلاً عملاً بنصيحة شاعره وضميره محمود درويش. حياة المخيم حاضرة بقوة وعناد في مجمل أعمال فتحي حيث ترى المخيم بكل تفاصيله بشوارعه وأزقته ووجوه رجاله العابسة الباحثة عن الشمس كما في تفاصيل المرأة التي لم تنزع عنها ثوب قريتها الذي هاجرت فيه، فمن مسيرات الشهداء والوجوه الصارخة بغضب إلى الأعناق الناظرة نحو السماء الباحثة عن الشمس إلى الأقدام الضاربة بغضب على رمل الطرقات تثير الغبار إلى الأطفال الحالمين رغم بؤس الواقع إلي مضخة الماء التابعة لوكالة الغوث والنسوة ينتظرن دورهن ليملأن الجرار. كأن المخيم بعيش في كل تفصيل من تفاصيل اللوحات وكان فتحي نذر نفسه ليقارن للناظر بين حياة القسوة والعناد التي يكابدها الفلسطيني في المخيم وبين حياة الهدوء والسكينة والطبيعة الساحرة التي كان ينعم بها الفلسطيني قبل نكبته. في المخيم هناك بحث عن المستقبل وتأمل للواقع المرير لكنه تأمل مسكون بالإصرار والعناد الذين يحولان القسوة إلى بحث عن حلم جميل. كل ذلك بقوة ريشة فتحي التي تنجح في سلب استقرار الروح ونسجنا جزءاً من اللوحة.
لا يمكن لشاب مثلي ترعرع في الأزقة ذاتها التي رسمها فتحي في مخيم جباليا إلا أن يتذكر الفنان الذي ولدنا وهو كبير، فكان بالنسبة لنا أهم من بيكاسو وأكثر تأثيراً من الانطباعيين وأكثر شهرة من ديفنشي. كان فتحي ومازال جزءاً أصيلاً من ثقافتنا المحلية ومكوناً هاماً حين الحديث عن ذائقتنا عن الرسم.
أذكر يوم استشهد سهيل ابن اخيه في هبة عام 1983. كان بمثل عمري حين خرجنا إلى مركز الجيش وأطلق القناص الرصاصة على سهيل فأرداه شهيداً. في اليوم الثاني خرج المخيم عن بكرة أبيه حاملاً سهيل يوارى الثري في مقبرة المخيم.
في ذلك اليوم رسم فتحي أو العم أبو حسام كما نناديه صورة المسيرة الغاضبة وسهيل محمولاً على أكتاف المشيعين. كانت الصورة أقوى من الواقع. وظلت حين اتذكرها الشيء الذي يذكرني بقوة الغضب في ذلك اليوم الذي صار جزءاً من تاريخي الشخصي. كما كانت بين فتحي في بلوك "2" في المخيم مرسماً يرتاده الجميع ليشاهد عبقريات الرجل الذي ولد بين الناس ويعيش معهم ويعبر عن حياتهم بقوة منقطعة الوصف.
بالمجمل، فإن تكريم فتحي غبن هو تكريس لتكريم الفن والمبدعين تقديراً لمسيرتهم الكبيرة وتقديراً لدورهم في تعزيز الهوية الوطنية. والأهم من ذلك أن يكون التكريم أيضاً للأحياء ولا ننتظر فقط إلى أن يموتوا وكأن الجيد هو الميت. من هنا فإن ثمة حاجة انطلاقاً من التكريم الذي حظي به فتحي غبن لمواصلة تكريم مسيرة الابداع الفلسطيني وتكريم المبدعين في شتى مجالات الفن والأدب وصنوف الإبداع.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية