هل أخطأ بوتين في عدم حسم المعركة؟التفكير في هذا السؤال ينبع من مجريات الحرب الروسية الأوكرانية، التي تجاوزت الآن المائة يوم ولم يتم حسمها. لم يكن أحد يتوقع الفترة التي يمكن أن تستغرقها الحرب أو كيف يمكن له أن يحسمها، بل إن الإجابات حول الهدف النهائي لبوتين من وراء الحرب لم تكن واضحة. هل كان يريد احتلال البلاد كاملة، أم كان يرمي إلى تلقين النظام الذي وصفه بالنازي درساً قاسياً، أم كان يريد أن يطيح بالرئيس الذي تحوّل من مهرّج على خشبات المسارح إلى قائد يتصدى لواحدة من أعتى القوى في التاريخ؟ لا أحد يعرف، ويبدو أن الإجابات لم تكن دقيقة؛ لأن الأسئلة حول العملية العسكرية لم تكن واضحة. فالانشغال كان أكثر بدوافع بوتين من وراء شن الحملة العسكرية. وكان السؤال «لماذا قام بذلك؟» أكثر عمقاً من «ماذا يريد من وراء ذلك؟». لم يكن هناك شيء واضح أكثر من أن بوتين كان بحاجة لتغيير قواعد اللعبة فيما يتعلق بمكانة روسيا في العالم، وفي ظل زحمة التحليلات اختفى السؤال المشروع عن المعركة الأخيرة في الحرب، المعركة التي ستبث شاشات التلفزة خطابها الأخير، وكيف سيكون شكله. لم يكن كل شيء واضحاً، ولم يعرف أحد الإجابات بدقة معقولة. كل ما في الأمر أن العالم استيقظ على حرب كان البعض يعتقد أنها ستكون كونية وستحرق الأخضر واليابس.
انظروا إلى مساحات النقاشات والسيناريوهات التي كانت مطروحة. ببساطة، أحدها كان أن تتوسع رقعة الحرب. البعض تحدث عن دخول دول أخرى. والبعض الآخر استذكر بدايات الحربين العالميتين، وكيف بدأت بحوادث إطلاق نار وانتهت بتغيير خارطة العالم. كان البعض يبحث عن شَبه محتمل بين الحوادث التي جرت على الحدود الروسية الأوكرانية، وبين ما كان يجري في الحرب العالمية الثانية. وكان ثمة سؤال أكثر عمقاً يشير إلى جهة الغرب، ويرفع علامة الاستفهام حول الموقف الحقيقي، وربما النهائي، للدول الغربية في القارة الأوروبية من مجريات الحرب. وبكلمة أخرى كان السؤال حول دخولها للحرب في أوقات لاحقة. كان يصعب التكهن فيما يمكن أن يحدث، وكان يصعب توقع ردة فعل واشنطن. وأيضاً كان يصعب في أي تحليل منطقي تخيّل دخول واشنطن الحرب لصالح أوكرانيا. بعبارة تلخص هذا الموقف، فإن العالم لن يعيد تجربة الحرب العالمية الثانية حيث يدمر الجميع الجميع. وربما أن مستوى التسلح الذي وصلت له الدول الكبرى، وانتشار السلاح النووي ومخاطر استعماله، وعدم إمكانية التحكم في أي حرب يتم فيها التلويح به، كل ذلك جعل دخول القوى الكبرى في مواجهة مباشرة أمراً صعباً. وكان الحديث يدور حول حرب بالوكالة تخوضها أوكرانيا في مواجهة روسيا، تقوم فيه أميركا وحلفاؤها بتسليح كييف ومدّها بكل ما تحتاج، وتأمين عملية إعادة الإعمار بعد نهاية الحرب، مقابل قصّ فرو الدب الروسي.
لا أحد يعرف بماذا كان يفكر بوتين حين كان يفكر الآخرون في استنزافه، وجره لحرب طويلة لا يحقق فيها غاياته من قصف كل أوكرانيا. ولا أحد يعرف كيف كان يتخيل نهاية الحرب، فيما كانوا في الدوائر الغربية يفكرون فقط في كيف سيضطرونه إلى الإعلان عن وقف إطلاق النار، دون أن يقول لشعبه ماذا حقق من هذه الحرب. كانت ثمة خطط واضحة لتقليم الأظافر بطريقة هادئة. وأظن - وهذا بات شائعاً - أن بوتين أخطأ حين لم يحدد من البداية ماذا يريد من وراء الحرب على أوكرانيا، وبالتالي وضع سقف يمكن تحقيقه حتى لو كان احتلال كل المدن الأوكرانية وإسقاط النظام. وأخطأ مرة ثانية حين لم يتوجه لحسم المعارك بصورة سريعة.
ثمة فرق واضح في إستراتيجيات الحرب لم يتم توظيفه لصالح التفكير في مستقبل المعركة. ففي ظل العالم الحديث، فإن الحروب الطويلة تنهك جميع الأطراف لأن ثمة خسائر مستمرة.
ما الذي حدث خلال الأشهر الماضية؟ صحيح أن أوكرانيا تكبدت خسائر فادحة، ولكن أيضاً مع الوقت صارت روسيا تتكبد خسائر أيضاً. وصار يمكن تلمس ذلك من خسارات الجيش لصفوة من قيادته. لم يكن بوتين بحاجة لمثل هذا الاستطالة في الحرب، الأمر الذي أعطى خصومه في المعسكر الغربي الفرصة للتفكير في المزيد من الخطط وتدبير الحيل؛ من أجل إضعاف معنويات الجيش الذي لم يستطع أن يحسم المعركة.
انظروا إلى ما يفعله الأميركيون في معاركهم. يذهبون للحسم بقوة نارية غير مسبوقة ثم يتركون الفوضى خلفهم. قد لا يحققون ما يريدون، لكنهم يدمرون كل شيء حتى يصاب العالم بالعمى، فلا يعود الأمر مهماً إذا ما حققوا الهدف الذي من أجله شنوا الحرب أم لا. المهم أن يتم إعطاء الوهم بالحقيقة. ديك تشيني قال ذات مرة عن الحرب في العراق وعن عدم ثبوت أسلحة دمار شامل: إن الحقيقة ليست مهمة، المهم ماذا يقال عن الحقيقة. هذه هي الخديعة الأميركية في الحرب. يضربون ويضربون بقسوة، ثم يتوقفون دون الالتفات إلى حقيقة ما جرى. أما في المقابل فإن الحرب الروسية على أوكرانيا أخذت نمط الحرب الطويلة التي يصعب تحديد غايات من ورائها. وميزة الحروب الطويلة أنك دائماً بحاجة لتبرير ولتفسير لما يجري.
يشبه الأمر الفرق بين الفيلم الأميركي والفيلم الروسي. الفيلم الأميركي يبدأ مباشرة بحدث صغير يتفجّر منه بركان كل الأحداث الكبرى في حبكة الدراما خلال الساعتين القادمتين، فيما الفيلم الروسي يبدأ بمشهد بانورامي عريض، وغير واضح للمكان الذي تجري فيه الأحداث، ثم تدريجياً، ورويداً رويداً، يتم تقديم شخصيات الدراما. إنه الفرق بين فيلم الأكشن الأميركي والفيلم الاجتماعي الشرقي. هذه ليست مقارنة عابرة، بل تعكس اختلاف الزوايا التي يتم من خلالها النظر لكل شيء بما في ذلك الحروب.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد