«فتح» هي الظاهرة السياسية الفلسطينية الأبرز لنصف قرن، فقد تمكنت في لحظة تاريخية هي الأصعب في مسار الشعب الفلسطيني والحالة العربية أن تعيد تشكيل واقع كان غارقاً في الهزيمة، في تحدٍ هائل لكل عوامل الاندثار، وتصنع ثورة ملأت الكون وأعادت إحياء القضية والهوية التي تعرضت للتشتت والقطع وكفت عن التطور الطبيعي، في مطلع ستينات القرن الماضي توفرت عدة عوامل ولكن أيضاً توفر فتية آمنوا بوطنيتهم ليكونوا نواة هذه الحركة الهائلة، وليحملوا على أكتافهم مسؤولية شعب قبل أن يغادروا اغتيالاً وتصفية آخرهم زعيمها التاريخي ياسر عرفات.


وما بين ماضٍ كان فيه وهج حركة فتح ساطعاً يشكل إغراء لمقاتلين عرب وأجانب حلموا بالانضمام لصفوفها، وما بين واقع باتت فيه الحركة بعد ستة عقود على انطلاقتها تتحسس خسائرها بين شعبها، ما يستدعي قراءته في سياقات بعيدة عن منافسات الفصائل بل في إطار تطور تاريخي. فبعد خسارة الحركة لانتخابات جامعة بيرزيت في الثامن عشر من أيار  الماضي ها هي تخسر أول من أمس انتخابات نقابة الأطباء في الضفة الغربية. وفي سياق أبعد اذا ما عدنا للخسارة المدوية قبل ستة عشر عاماً للمجلس التشريعي وما بينهما من منافسات شديدة الصعوبة في كثير من المؤسسات، بعد أن ظلت «فتح» لعقود لا تأبه بأي انتخابات كضامن لها بلا منازع.
لا يمكن التسليم بالقراءة السطحية لقادة ومؤيدي الحركة بأن الأزمة تكمن في جهازها الإعلامي والثقافي، وأن هناك خللاً في إيصال الرسالة. فتلك القراءة ستزيد إن تم التسليم بها من خسارات الحركة وتجنبها تقديم قراءات جدية لواقع لا يحتمل التسطيح أكثر، وخاصة أن وجود وبقاء حركة فتح كمركز للوطنية الفلسطينية ما زال أحد الشروط الضرورية للقضية الفلسطينية في ظل غياب البديل الوطني، وفي ظل وجود البديل الإسلامي بهوية أممية ولم تصقله تجربة السياسة بعد.


خسارات حركة فتح ليست وليدة اللحظة، بل هي مسار ثابت منذ سنوات طويلة تخلي فيه الحركة مساحات عمل، ولأن السياسة لا تعرف الفراغ فلا بد وأن يملأ هذا الفراغ أحد ما أو جهة أو تيار ما، ولأن حركة حماس كحركة شديدة الحيوية فهي الأكثر تأهلاً لملئه، وهذا حدث في الإقليم أثناء عشرية الاضطرابات حين أُزيحت النظم الوطنية فكانت حركة الإخوان جاهزة لتسلم الحكم، وتلك طبيعة الأشياء.


ولكن الأزمة التاريخية للحركة أنتجتها عوامل متعددة، ومن الخطأ الاعتقاد أن سبباً واحداً وراء كل هذا، فأنا من المعجبين بقراءة مناخات اللحظة بجميع مكوناتها وتفاعل كل عواملها وجميع أسبابها وفقاً لمسارها التاريخي وأين تقف في كل محطة ومؤثراتها السياسية، وليس قراءة اللحظة الأخيرة دون ربطها بكل العوامل وبعيداً عن انفعالها المنزوع من سياقه الطويل، لأن لهذا التراجع الذي يعكس نفسه عدة عوامل بعضها خارجي وبعضها داخلي، أو كما يقول الماركسيون بُعد موضوعي وآخر ذاتي.


أما عن البعد الموضوعي الخارجي، فقد أقدمت حركة فتح على أخطر مغامرة تاريخية بذهابها نحو تسوية لم تنجح، كان الأمر أشبه بمغامرة تاريخية، إما أن ينتهي بإقامة دولة فلسطينية كما حلمت وكافحت، أو أن ينتهي بتلاشي حركة فتح إن فشل، وهذا حصل مع حزب العمل على الجانب الآخر وهو التيار المركزي في إسرائيل، فقد اصطدم مشروع حركة فتح بالدهاء الإسرائيلي ليجردها من أهم أسباب بقائها، وهنا وقعت الحركة في ظرف شديد الصعوبة، فلم تستطع تحقيق الحلم، ولم تستطع العودة للقتال من أجله بوسائلها الطبيعية.


ولأن المكون السياسي عادةً هو وليد الضرورة التاريخية، وتلك الضرورة في لحظة ما استدعت حركة فتح لتقوم بوظيفة الصراع مع اسرائيل وتحرير الوطن من الاحتلال، فإن السؤال الذي يفرض نفسه حالياً والذي يشي بفقدان الحركة للدور الوظيفي الذي يعيره علماء اجتماع السياسة الفرنسيون اهتماماً كبيراً في إطار قراءتهم للقوى الاجتماعية والسياسية، ما هو الدور الوظيفي الحالي لحركة فتح؟ ويتكثف هذا السؤال في ظل استمرار الاحتلال، فقد أخذت على عاتقها مفاوضة الاحتلال للحصول على الدولة، وقد أصبح هذا السؤال أكثر ضراوة في السنوات الأخيرة بعد عام 2014 والذي أسدل فيه نتنياهو الستار على آخر محاولة تفاوضية رعاها وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون كيري.


وإذا كانت العقود الثلاثة الأولى في تاريخ «فتح» جسدت دورها الوظيفي بالصدام مع إسرائيل، ثم تلاها عقدان بدور وظيفي جديد وهو مفاوضة إسرائيل، فقد شهد العقد الأخير فراغاً وظيفياً في إطار مجتمع وشعب مازال بحاجة لاستدعاء مَن يقوم بدور التخلص من الاحتلال. ويعبر عن ذلك المزاج الشعبي الذي دفع حتى الآن اثنين وستين شهيداً منذ بداية العام، وينتفض مع أحداث القدس ويرفض مسيرة الأعلام ، وما بين توق الشعب ودور الحركة الحالي الذي بات يتجسد بالوساطة بين الشعب والاحتلال هوة كبيرة تعكس نفسها بنتائج الانتخابات، فقد وقعت حركة فتح في معادلة غير سوية بين شعب ومحتل.


لقد أقرت الحركة في مؤتمرها السادس دوراً كفاحياً جماهيرياً كان تجسيده الأبرز زياد أبو عين، لكن الحركة لم تتقدم في تنفيذ هذا البرنامج، ما تركها بنظر الرأي العام أقرب للتعايش منها للصدام وان كان بحده الأدنى؟ ويمكن القول موضوعياً إن حركة فتح كانت ضحية المغامرة الكبرى في سبيل حلم لم تتمكن من تحقيقه والآن تدفع ثمنه.


أما على الصعيد الذاتي فقد تغيرت هوية حركة فتح منذ التأسيس من الحركة الجامعة للهوية الوطنية والجامعة لكل مكونات شعبها بتناقضاته الفكرية والسياسية وتكتلاته الشخصية حتى، وكانت تنظيم من لا تنظيمَ له كما كما صممها المؤسس، فقد باتت أضيق كثيراً من فكرة التأسيس، وباتت تضيق على أبنائها وبات من السهل طرد من يتباين ولو قليلاً بعد أن كانت واحة الاختلاف وآخرهم تيسير أبو سنينة أحد رجالات تاريخها في عملية الدبويا، وسبقه آخرون لم تحتمل «فتح» الاختلاف معهم، بينما كانت سابقاً تجَمُّع الجماعات المختلفة. وكان عادياً أن يُقال جماعة فلان بالحركة، الآن تضيق الحركة بلا تعددية ولا آراء مخالفة ولا قيادة جماعية،  وهذا ساهم بعزوف الكثيرين عن العمل أو اتكال الكل الفتحاوي على قيادة ضيقة تأخذ على عاتقها العمل بديلاً عن الكل الفتحاوي، لكن السؤال المركزي الذي يجب أن يسأله مفكرو حركة فتح لأنفسهم عن واقع الحركة بالنسبة لشعب تحت الاحتلال هو: ماذا نحن وما هو الدور الوظيفي الذي نقوم به؟


إن الإجابة العلمية عن هذا السؤال هي التي ستفتح على برنامج يبرر وجودها واستمرارها، وهو السؤال الذي يحدد نجاح أو فشل أي كتلة اجتماعية سياسية، استدعاء التاريخ والضرورة التاريخية. فهل مازال التاريخ يستدعي حركة فتح؟ أم أن دورها التاريخي أصبح هامشياً؟ وأن مهماتها اليومية أدنى كثيراً من تطلعات شعب أولويته الخلاص من الاحتلال؟ وإلا سيستمر التراجع لأن هناك معادلة خاطئة، فعلى الجانب الآخر كانت تجربة حزب العمل والخسارات لصالح اليمين عندما اصطدم مشروعه السياسي بعد مغامرته التاريخية ...التاريخ يتكرر ويعطي ما ينبغي من نظرياته، والحديث يطول.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد