لم تواجه إسرائيل مأزقاً في السنوات الأخيرة كما واجهته في عملية اغتيال مراسلة قناة «الجزيرة» الإعلامية المقدسية شيرين أبو عاقلة في مخيم جنين، التي اعتبرت أيقونة فلسطينية بامتياز، وحظيت بجنازة مهيبة شارك فيها عشرات الآلاف من المواطنين الفلسطينيين من الذين تمكنوا من الوصول إلى القدس المحتلة، بل تحول تشييعها إلى تحد لسلطات الاحتلال التي لم تنجح في منع الفلسطينيين من رفع العلم الفلسطيني أو ترديد الشعارات الوطنية. وساء وضع إسرائيل دولياً، ليس فقط لمسؤوليتها عن عملية الاغتيال التي حاولت دون نجاح التنصل منها أو التشكيك بالرواية الفلسطينية الصلبة التي تشرح ما حصل في الموقع الذي قتلت فيه شيرين، وبل وكذلك للفضيحة الكبيرة والعار الذي لحق بإسرائيل جراء استخدام العنف المفرط ضد المشيّعين في المستشفى الفرنسي؛ عندما منعت بالقوة نقل جثمان الشهيدة على الأكتاف من المستشفى إلى المقبرة. وكانت مشاهد ضرب أفراد الشرطة وحرس الحدود الهمجي والبربري للشباب الذين كانوا يحملون النعش، والذي كاد أن يسقط التابوت أرضاً، حاضرة في كل وسائل الإعلام على المستوى الدولي نتيجة للحضور المكثف للصحافيين والتغطية المباشرة للحدث.
حاولت إسرائيل في البداية إلقاء اللوم على المسلحين الفلسطينيين في عملية القتل، بدعوى أن الشبان الفلسطينيين أطلقوا النار بكثافة وبشكل عشوائي، ما أدى إلى إصابة أبو عاقلة واستشهادها، وتحت ضغط الإدانات والاستنكار الدولي واسع النطاق، والمطالبات بالتحقيق في عملية القتل، بدأ التدرج في الرواية نحو الاعتراف بالمسؤولية عن هذا الاغتيال من قبل جيش الاحتلال، وشمل التغيير في الرواية أحاديث من قبيل «قد تكون النيران من الجانب الإسرائيلي» حيث تمّت عمليات إطلاق نار عشوائية خلال الاشتباكات في مخيم جنين الذي تعرض للاجتياح صباح الأربعاء الماضي، حيث قتلت شيرين وهي تغطي العدوان الإسرائيلي. وأخيراً جاءت روايات إسرائيلية تقول بوجود احتمال كبير بأن تكون قوات الاحتلال هي المسؤولة، وأن ما ينقص لتأكيد هذه الرواية هو الحصول على مقذوف الطلقة للقيام بإجراء عملية تحقيق متكاملة فيما حصل.
هناك إقرار إسرائيلي بفشل إعلامي كبير في تفسير عملية اغتيال أبو عاقلة، وقد شبه بعض الإعلاميين والمحللين الإسرائيليين ما حدث بقتل الشهيد محمد الدرة في بداية الانتفاضة الثانية في غزة في العام 2000، والذي تحوّل أيضاً إلى رمز وطني وانتشرت صورته في كل أرجاء الكون، وباءت بالفشل كل المحاولات الإسرائيلية للتنصل من المسؤولية عن مقتله واتهام المسلحين الفلسطينيين بالتسبّب في قتله. حتى أن محاولات خلق رواية إعلامية وتمثيلية مناقضة لم تنجح على الرغم من الجهود الهائلة التي بذلتها إسرائيل لنفي مسؤوليتها عن عملية قتل الطفل الرمز. ونتج جدل وانقسام كبيران داخل إسرائيل حول اغتيال شيرين، وأيضاً حول عملية القمع الهمجية التي رافقت التشييع في المستشفى الفرنسي بالشيخ جرّاح في القدس. وأظهرت وسائل الإعلام الإسرائيلية التناقضات التي حصلت على خلفية الإدانات الدولية والمطالبة بتحقيق موضوعي وشفاف في عملية الاغتيال على غرار بيان مجلس الأمن الدولي.
لقد حوّل التعاطي الفلسطيني مع الاغتيال، والتغطية الدولية الواسعة، والانتقادات والإدانات، هذا الحدث إلى علامة فاصلة في إظهار المأساة التي يعيشها الشعب الفلسطيني الذي يُقتل أبناؤه يومياً بدم بارد، ويحظى الاحتلال الإسرائيلي بالتسامح وبالحصانة الدولية. وعلى الرغم من وجود أحداث دولية كبيرة، وأهمها الحرب الأوكرانية، عاد التركيز على الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي باعتباره حدثاً مركزياً كان مهملاً خلال فترات طويلة باستثناء الأوقات التي تحصل فيها مواجهات شديدة ومعارك وحروب.
ولكن الحرب الأوكرانية على الرغم من أنها غطّت على القمع والعدوان الإسرائيلي المستمر ضد الفلسطينيين، إلا أنها شكلت فضيحة لازدواجية المعايير التي ينتهجها الغرب وسياسة الكيل بمكيالين تجاه إسرائيل وجهات دولية أخرى لا تقوم بجزء ممّا تمارسه إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني. فالعقوبات الواسعة والشديدة غير المسبوقة ضد روسيا، بما في ذلك إمدادات السلاح الفتاك والمتطوّر لأوكرانيا، وحجم الأموال الهائلة التي تنفق قي هذه الحرب لإفشال روسيا وهزيمتها على اعتبار أنها تنتهك القانون الدولي، تفضح النفاق الغربي وأكاذيب الانحياز للقانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان، إلا إذا كانت القوى الغربية لا ترى في الفلسطينيين بشراً متساوين مع مواطنيهم، أو أنها ترى إسرائيل دولة فوق القانون ولا تسرى عليها معايير احترام حقوق الإنسان.
فضيحة إسرائيل والغرب لا تغطيها بعض البيانات شديدة اللهجة التي أطلقت تحت ضغط التغطيات الإعلامية، بل إن استمرار الاحتلال الإسرائيلي ومواصلة انتهاك حقوق الشعب الفلسطيني الأساسية سيبقيان هذا الوضع وصمة عار للاحتلال وداعميه، ولمانحيه الحصانة في العالم الغربي وفي مقدمته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. فلو أن شيرين أبو عاقلة، التي تحمل الجنسية الأميركية كذلك، قتلت في إحدى دول العالم الثالث، لكانت الولايات المتحدة أقامت الدنيا ولم تقعدها هي ودول غربية أخرى. ولكن عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، هناك لهجة خجولة معتدلة لا تعبّر إطلاقاً عن حجم الجريمة وسبل معالجتها ومنع تكرارها. ومع ذلك لا يمكن أن تمر هذه المرة كما في المرات السابقة؛ فهناك ضمير عالمي سيصحو دون شك، وسيكشف التمييز وازدواجية المعايير. وبطبيعة الحال سيبقى التعويل على الشعب الفلسطيني المناضل الذي سيفضح بنضاله ومعاناته كذلك هذا الظلم المتواصل منذ عقود.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية