خلال الأسابيع والأيام الماضية أعادت كثافة الاتصالات بين العواصم والمدن من واشنطن لعمان و رام الله والقاهرة وتل أبيب و غزة قضية الفلسطينيين للصدارة بعد الاعتقاد بأنها تراجعت تحت وقع الحرب الروسية الأوكرانية، واستغلال الاحتلال الإسرائيلي تلك الحرب لاستكمال مشروعه التطبيعي في المنطقة وما تبدى من إزاحة متعمدة للملف الفلسطيني.
وخلال العام الماضي وما شهده من تطورات ومحاولة إسرائيل الالتفافية بالانفتاح على الإقليم كان هناك ما يشبه التسليم بتغيير أولويات المنطقة والعالم.
ولم تعد القضية الفلسطينية قضية مركزية أمام مستجدات المصالح، وبدا الترويج من قبل البعض أن الفلسطينيين «ليسوا مركز الكون»، ولكنهم فجأة ووسط نيران حرب تبدو عالمية باصطفافاتها تعود الخطوط الساخنة لتحرك عربات إطفائها، لأن الحريق إذا ما استعر سيطال كل العواصم، وإذا كانت واشنطن رأس السياسة يمكن القول إن الفلسطينيين تمكنوا من جعل قضيتهم مركزية حيث ظهرت أمامها كل قضايا الإقليم مجرد هوامش.
كانت الشرارة في أوائل شباط الماضي عندما اغتالت إسرائيل ثلاثة فلسطينيين من كتائب شهداء الأقصى في منطقة المخفية في نابلس ، كان التشييع غاضباً شاركت فيه كل الفصائل وبعدد من المسلحين ظهر لأول مرة، كانت المناخات الغاضبة تشي بالانتقال إلى مرحلة جديدة من التصعيد وخاصة أن الاغتيال تم لعناصر من حركة فتح الحزب الحاكم في الضفة وهم أكثر قدرة على الظهور علناً وتحدي السلطة والتجول بالسلاح والتمرد حيث تجد السلطة حساسية كبيرة بالصدام معهم ما يعطيهم متسعاً أكبر للرد وتفجير الوضع.
الفلسطينيون سياسياً رغم خسائرهم يكتشفون أن هذا التصعيد الذي أشغل العواصم أسدى لهم خدمة كبيرة عندما كانت الحركة السياسية تتجاوزهم وأن قضيتهم تآكلت وأن الدول باتت مشغولة بنفسها وبقضاياها ومصالحها. لكنهم اكتشفوا أنهم من يملك مفتاح الحرب ومفتاح الهدوء ويشعلون النار ويحركون كل عربات الإطفاء رغم أن تلك العربات تتحرك باتجاهين خاطئين الأول أنها تتواصل مع الجهات الرسمية فيما التصعيد يأخذ بعداً شعبياً لن تتمكن الجهات الرسمية من السيطرة عليه وضبطه خصوصاً في القدس ، أما في غزة والتي كانت على شفا الانفجار فقد تمكن الوسطاء من السيطرة على الأمر لأن الحالة أكثر منظمة.
الجانب الآخر في خطأ الوسطاء أن إسرائيل هي التي بادرت بالتصعيد بدءا من نابلس مروراً بجنين وصولاً للقدس فيما كان الجميع يطالب أو يطلب من الطرف الفلسطيني الهدوء.
وفي هذا ما زاد من تفجر الوضع لأن الفعل الفلسطيني هو انعكاس للسلوك الإسرائيلي سواء المرتبط بمشاريع إسرائيلية استيطانية واستيلائية أو مرتبط بالأوضاع الداخلية للحكومة وتعرضها للسقوط في أي لحظة لتنزع أكثر نحو سلوك يميني في مزاودة على معارضة يمينية.
ماذا لو تحققت تهدئة شاملة؟ سيكتشف الفلسطينيون أنه تمت إعادتهم للهامش، وأن الإقليم والعالم عاد ليبحث عن مصالحه وأن مصالحهم واستمرار الاحتلال ومصادرة الأرض والسيطرة على القدس وتهديدها سقطت من الاهتمام الدولي والإقليمي ولن يلتفت لهم أحد، هذا واقع عاشوه وبالتالي لم تعد لهم مصلحة بالهدوء أو أن السلوك الإسرائيلي الذي كاد يتجاهلهم كلياً أوصلهم لتلك النتيجة. فقبل جولة التصعيد الأخيرة كانت إسرائيل تبحث عن عواصم بعيدة تناقش ملفات مثل إيران وأزمة الغذاء والقمح والشعير والحرب الروسية لكن بعد التصعيد كان الحجيج الإسرائيلي للأردن لا يتحدث سوى عن التهدئة والقدس ولا عناوين غيرها.
تقدم إسرائيل خدمة للفلسطينيين. دائماً ما يقال إن الاحتلال غبي لأن وَهَم القوة يصيب صاحبه بلوثة تفقده رصانة التفكير، فما قبل الأسابيع الماضية كان الواقع يفرض معادلات السلام الاقتصادي والأمن مقابل الغذاء والتحويلات المالية وحقائب المال، حتى الولايات المتحدة أوفدت مبعوثها هادي عمرو ليلتقي مع رجال المال والأعمال كأنها سلمت بهذا الواقع. وهكذا هي السياسة طالما أن لا أزمات لماذا يتدخل الآخرون أو لماذا يتحدثون في السياسة.
هل هذا يكفي لإعادة هندسة السياسة الإسرائيلية؟ هل تفهم إسرائيل أن كل خططها بسلام اقتصادي وصفقة قرن ومحاولات التطبيع بأن تكون دولة طبيعية في الإقليم دون حل سياسي مع الفلسطينيين يمكن أن تؤمن لها استقراراً؟
الواقع يقول غير ذلك، وأن التهدئات سواء في غزة أو الضفة أو القدس هي مجرد استثناءات عابرة في صراع مستمر. فالحروب مع غزة والعمليات في الضفة والحريق في القدس أعطت ما يكفي من الوصول لاستنتاجات سياسية تصلح للحكم على سياسات إسرائيل بأنها حمقاء.
وهنا دور الوسطاء الذين يدركون حقيقة الأزمة وإن كان التصعيد يؤمن لهم حضوراً فاعلاً، ولكنهم يعرفون أن الأمر يتعلق بالاحتلال وأن الحل له مسار واحد ومحدد، لذا عليهم استغلال الأمر وترك إسرائيل وسط الحريق وعدم الإسراع بتخفيف صداعها بل المساهمة بتركيزه وتكثيفه كلما أمكن، عليهم عدم الاكتفاء بدور عربة إطفاء مؤقتة فهم يعالجون النتائج وليس الأسباب وتلك لم تعد تناسب دور عواصم مركزية لها رؤيتها السياسية التي تتعارض بالقطع مع وجود الاحتلال واستمراره.
هي الفرصة التي يوفرها التصعيد لتغيير الخطاب السياسي ووضع أجندة سياسية وليست إدارية مؤقتة، التحرر من دور الذي يُستدعى لقضية صغيرة محددة لا تناسب أزمة أكثر تعقيداً ويعرف الجميع مدخل حلها الحقيقي بحلول دائمة وليست مؤقتة.
ويجب أن يقال لواشنطن وتل أبيب عندما تشغل هواتفها الحمراء إن العالم مل من الحلول المرحلية والمؤقتة والعلاجات الموضعية. هناك احتلال وشعب تحت الاحتلال تلك هي القصة، أما على الجانب الفلسطيني هناك هدوء يهمش قضيتهم وتصعيد يفرضها على جدول العواصم، إسرائيل تقدم لهم الخدمة...!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية