وجه فرنسا بدا مختلفاً ليس فقط بفعل النتائج الدرامية لمتنافسي الجولة الثانية لانتخابات الرئاسة الرئيس ايمانويل ماكرون ومرشحة الجبهة الوطنية مارين لوبن، بل بفعل طبيعة مرشحي الرئاسة الثلاثة الأكثر حظوظا في الجولة الأولى والخارجين على تقاليد الجمهورية التي أقامها الزعيم التاريخي شارل ديغول بعد أربع جمهوريات تعثرت وثورة غيرت وجه أوروبا.
جمهورية ديغول أنشأها وفق شروطه التي فرضها وأبرزها تغيير نظام الحكم البرلماني كشكل وحيد للسلطة في الدولة وبقانون شديد التقييد يشترط تغيير الدستور فقط من خلال استفتاء لا يتم الا بموافقة ثلثي البرلمان ، وهو ما أصبح مستحيلاً بعد تشظي النظام السياسي الفرنسي؟ واذا كان ديغول قد سعى بفعل كاريزما خاصة للسيطرة على صلاحيات الدولة ضامناً أغلبية برلمانية لليمين وحفاظاً على الجمهورية يبدو أن ذلك سيكون الأداة التي تكتب نهاية جمهوريته محمولاً على تشدد الدستور.
ففرنسا تكفل بحملها اليمين واليسار خلال عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية ما كان انعكاساً طبيعياً للدور الذي لعبته القوى الفرنسية في مقاومة الاحتلال النازي ما بين كتائب المقاومة الاشتراكية التي كانت تستعد لدخول باريس واعلان النصر وبين المقاومة من الخارج وعلى رأسها شارل ديغول والذي سارع الأميركيون لاعادته الى فرنسا ودخول باريس قاطعين الطريق على كتائب الاشتراكيين ما أبقى لديهم غصة لاحقاً معتبرين أن ديغول خطف وهج الانتصار الذي حققوه بفعل مقاومتهم بالدم على الأرض.
كانت الجمهورية الخامسة محمولة على جناحي القوتين اللتين حكمتا فرنسا عقوداً منذ عهد المؤسس ديغول نهاية خمسينيات القرن الماضي حتى عهد فرنسوا هولاند ، مرة فوز متكامل لقوة بالرئاسة والبرلمان وهو ما كان حريصاً عليه ديغول وهو يضع الدستور مستفيداً من التجربة الأميركية أي أن تجري الانتخابات في نفس المناخات، أي يتم انتخاب للجمعية الوطنية مباشرة بعد الرئاسة قبل أن يتغير المزاج العام للناخبين الفرنسيين. ولكن أحياناً كان يحدث اختلاف بين نتائج انتخابات الرئاسة والجمعية وهو ما عرف «بالمساكنة» وتلك وفقاً للثقافة الفرنسية للعشاق والعيش في سكن واحد دون عقد زواج وقد ظهرت تلك للمرة الأولى في ثمانينيات القرن الماضي عندما اضطر ميتران الاشتراكي إلى العمل مع شيراك اليميني.
غير أن دعامتي الجمهورية تبخرتا في هذه الانتخابات مع حصول المرشح الاشتراكي على أقل من 2% واليميني على أقل من 5% . ولا تتعلق المسألة بهياكل النظام القديم الذي قامت عليه فرنسا لأكثر من ستة عقود، بل بالمرشحين الثلاثة الأوائل يتصدرهم ماكرون وهو ببرنامج يميني بمواقف أحد نماذجها الموقف المتطرف من المسلمين وكذلك من الخصخصة وهو ليس يميناً وسطياً كما الارث اليميني بفرنسا، مروراً بزعيمة التيار الفاشي بفرنسا وصولا لميلانشون ممثل اليسار الراديكالي والبعيد أيضاً من الاشتراكية الوسيطة التي ميزت فرنسا ما يعني أن وجه فرنسا قد تغير وأن المزاج الفرنسي الوسطي التقليدي تلاشى لصالح فرنسا أكثر تطرفاً في خياراتها.
فرنسا التي أنتجت ثورة شعارها الأول المساواة تحصد فيها العنصرية لوبن أصوات أكثر من 40% من الناخبين، ولم يكن فوز ماكرون محققاً لو لم تكن لوبن من وصل للدورة الثانية من السباق الرئاسي، وهو ما ظهر في خطاب النصر لشكره لمن رفضوا سيادة اليمين المتطرف. وان كان وصوله للسلطة وهو من القلائل الذي يتم التجديد له يشي بمأزق فرنسا ونهاية عصر لم يكن عصرها الذهبي ولكنه احداً من أفضل عصور فرنسا.
ماكرون رئيس الصدفة، هذا ما يمكن أن يوصف به ولم يكن له حظوظ العام 2017 لولا لعبة القدر قبل خمسة أيام من الانتخابات التي كانت مضمونة لمرشح اليمين الديغولي فرانسوا بيون الذي كانت تعطيه الاستطلاعات 40% . لكن الفضيحة التي تفجرت في وجهه في اللحظة الأخيرة دفعته لينسحب تاركاً الساحة ليفوز ماكرون القادم من بنك روتشيلد ومعهد الادارة العليا للنخبة الفرنسية ثم يصبح هذا الرئيس الذي جاء بضربة حظ ديغول فرنسا الثاني ويتم التجديد له. فاذا شهدت انتخابات 2017 مشاركة بقايا اليمين واليسار في فرنسا فقد شهدت هذه الانتخابات اختفاءهما وهكذا سيكتب تاريخ الجمهورية بين رئيسين احدهما جاء مرفوعاً على أسنة المعارك والانتصارات والدم كمؤسس لها ورئيس جاء بالحظ ليكتب النهاية.
فرنسا عندما قامت بثورتها أحدثت ما يكفي من الفزع لملوك أوروبا وتمكنت من التأثير على القارة التي حذت حذوها ليس فقط بالعمل السياسي بل أيضاً بالثقافي والفكري. ولكنها بدت في العقود الأخيرة أكثر تأثراً بعوامل الخارج ، فاليسار الذي تشظى غادر الحكم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ولم يعد له، فيما تصعد حالة يمينية شديدة التطرف تمثلت بجان ماري لوبن بداية القرن ثم ابنته التي نافست ماكرون وحصلت على تلك النسبة الكبيرة جداً آملة أن تحملها للجمعية الوطنية. جاء هذا التيار وسط مناخات الحادي عشر من أيلول وأحداث تولوز وصعود البوتينية ثم جاء ساركوزي في عصر بوش والجمهوريين الجدد، دولة تراجع اقتصادها وشهدت في عصر ماكرون أسوأ خمس سنوات في عصر الجمهورية ومرشحة لخمس سنوات قد تكون الأسوأ وخصوصاً أن لا أمل بانعكاس فوزه في البرلمان واذا ما حصدت لوبن وميلانشون قوة مؤثرة في البرلمان وهو ما يشي باختصار الجمهورية وتلك النتائج ليست سوى تعبيرات.
فما الذي حصل في فرنسا لتذهب بهذا الاتجاه وتخلع هويتها السياسية والثقافية؟ هل هو مسار التاريخ الطبيعي الذي تتقادم فيه كل الهياكل القديمة وليدة مناخاتها في عصر تغير؟ ربما..؟؟؟
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية