خلال فترة قريبة، صوتت ثلاثة برلمانات أوروبية لصالح اعتراف حكوماتها بالدولة الفلسطينية، ومع أن هذا التصويت غير ملزم للحكومات المعنية، في لندن وباريس ومدريد، إلاّ أن هذا التصويت يلقي الضوء بشكل واضح على متغيرات لدى الرأي العام في هذه الدول، كما في معظم دول الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي أدى إلى استجابة السلطات التشريعية ـ البرلمانات، إلى دعوة حكوماتها الاستجابة لرؤية الرأي العام لديها، وتأكيد الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
دولة رابعة ذات نفوذ قوي، ألمانيا، ظلت حتى الآن بمنأى عن الاستجابة للرأي العام لديها، كما أن برلمانها لم يحذ حذو أشقائه الأوروبيين في هذا السياق، وظل لا يسمع ولا يرى أن هناك تحولات كبرى تفرض إعادة النظر بسياسات ألمانيا تجاه الصراع العربي ـ الإسرائيلي، خاصة على الملف الفلسطيني، الأهم من ذلك، فإن «البوندستاغ» البرلمان الاتحادي الألماني، لم يستجب للرأي العام الألماني نفسه، ففي استطلاع للرأي نشرته صحيفة «شتيرن» الألمانية الشهيرة، أواخر آذار الماضي، تبين أن 71 في المئة من المواطنين الألمان يؤيدون ويدعمون اعترافا من قبل حكومتهم بدولة فلسطين، بينما عارض ذلك 15 بالمئة فقط، في حين ظل 14 في المئة منهم، بلا موقف، لكن «البوندستاغ» الذي كان يتابع تصويت البرلمانات الشقيقة، ظل في غياب متعمد عن الفعل أو الاستجابة لتطلعات الشعب الألماني الواضحة التي عكستها استطلاعات الرأي حول هذه المسألة.
من هنا جاء المطلب الفلسطيني الواضح بضرورة اعتراف ألمانيا بدولة فلسطين، وهو الطلب الذي عبر عنه مباشرة رئيس الحكومة الفلسطينية الحمد الله لدى اجتماعه بالضيف الزائر، وزير الخارجية الألماني فرانك شتاينماير، قبل حوالى أسبوع، إلاّ أن رد الفعل الألماني، ظل تقليدياً وهو أن الأمر يتعلق بمفاوضات مباشرة بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني تؤدي إلى قيام دولتين، الأمر الذي يستدعي السرعة في استئناف العملية التفاوضية بينهما بأسرع وقت ممكن.
ومع أهمية هذه الزيارة، سياسيا وامنيا واقتصاديا، إلاّ أن الجزء الأكثر أهمية، كان الزيارة التي لم تكن مدرجة من قبل، التي قام بها وزير الخارجية الألماني إلى قطاع غزة ، ومع أنه أشار بوضوح إلى أنه لن ولم يلتق بحركة حماس ، إلاّ أن هذه الأخيرة، رحبت بالزيارة، مع أن الوزير الألماني تحدث بصراحة عن معادلة باتت شائعة لدى الساسة الأوروبيين، وهي معادلة «الأمن مقابل التنمية» وقيامه بعقد مؤتمره الصحافي على أنقاض ميناء غزة، هو إشارة لا بد من ملاحظتها، للتعبير عن هذا الموقف، فإعادة الإعمار في غزة، تتطلب هدنة طويلة راسخة، ربما تتوفر من خلال جملة من التحركات السياسية ذات الطبيعة السرية، بشكل عام، والمعلنة على وجه الخصوص، كالدور المحدد في الورقة السويسرية، وبحيث لا يتبقى أي خيار أمام الفلسطينيين الغزيين، سوى الرضوخ لهذه المعادلة التي لا تستقيم مع المعطيات الراهنة، ذلك أن الشعب الفلسطيني هو الذي بحاجة إلى الأمن، فإسرائيل هي التي شنت عدة حروب متواترة على قطاع غزة كما الضفة الغربية، الفلسطينيون بحاجة إلى الأمن كما الحاجة إلى التنمية، هذان العنصران ليسا في مواجهة متبادلة، بل بتواز متكامل، يتناقض كلياً مع الواقع الذي تحاول معادلة «التنمية مقابل الأمن» أن تتجاهله.
ولا شك أن فكرة هذه المعادلة، تنطلق من واقع حقيقي، وهو أن غزة ومواطنيها، يعيشون تحت وطأة البؤس والكوارث، جراء نتائج الحروب الإسرائيلية المستمرة من ناحية، وحالة الإفقار الناتجة عن سياسات حركة حماس التي تسيطر على القطاع من خلال فرض المزيد من الضرائب على مواطنين بالكاد يحصلون على لقمة العيش، هذه الحالة الكارثية، ربما تمهد لأصحاب رؤية «التنمية ـ مقابل الأمن» فرض واقعية جديدة، تؤشر على قيام دولة غزة، القائمة فعلاً، ولكن مع اعتراف ما بهذا الكيان، خاصة بعد فشل الأطراف المعنية بالانقسام في التوصل إلى الحد الأدنى من إعادة الوحدة إلى شقي الوطن الافتراضي، في غزة و رام الله .
إن الهدوء على جبهة المصالحة، لا يعني فقط، أن الانقسام بات يتحول بالتدريج إلى انفصال، بل إنه يعطي الأطراف النافذة، إقليمياً ودولياً، فرصة التدخل لفرض رؤية «التنمية مقابل الأمن» على افتراض أن المواطن الفلسطيني، خاصة في قطاع غزة، يريد حلاً لحالة الإفقار والحصار المزدوج الذي بات ضحيته الأولى، يريد الخلاص، وهنا تمتد خشبة الخلاص لمساعدته على أن يطفو في بحر الفقر الهائج.
زيارة وزير الخارجية الألماني إلى غزة، في هذا السياق المشار إليه، تعتبر بالغة الأهمية، لكنها أكثر خطورة مما يبدو عليه الأمر، والخطورة تكمن في أن يصبح شعار معادلة «التنمية مقابل الأمن» منقذاً وأكثر واقعية، بحيث يمكن معه فرض أية تسوية للوضع الكارثي في قطاع غزة.
المطلوب ليس وقف هذه المعادلة، بل مواجهتها من خلال تخلي الفصائل الأساسية المؤثرة في الوضع الفلسطيني عن أجندتها الفئوية الخاصة لصالح المشروع الوطني، دون ذلك، سنظل في إطار هذه المعادلة إلى أن تتحقق على جثة القضية الوطنية!!
Hanihabib272@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد