على ما تبدو عليه الأمور، وبحسب النتائج التي انتهت إليها هذه الانتخابات فإن النجاح هو العنوان الصحيح في وصفها وبالمقاييس المتعارف عليها من حيث نسبة المشاركة، ومن حيث السلاسة، والسير الآمن والهادئ، ومن حيث عدم التدخل المباشر أو الفظّ من قبل القوائم أو أجهزة الأمن، أو مندوبي القوائم، أو الفصائل، ومن حيث عدد الأوراق الملغاة أو حتى البيضاء.
أما بعض مظاهر الخلل في هذه الانتخابات فتعود لأسباب تتعلق، إما بالنظام الانتخابي نفسه، أو بطرائق تحديد وبالمدد الزمنية لما يُعرف من شروط معينة لبراءات الذمة، أو حتى بالحدود الفاصلة بين مُسمّى القوائم المستقلة والحزبية والفردية، وهي أمور تعود كلها إلى اعتبارات ونواقص ومتطلبات من اختصاص السلطة التنفيذية والمجتمع السياسي، والحالة الحزبية، وليس إلى لجنة الانتخابات، والتي ما زالت تسجل تباعاً المزيد من تعزيز صورتها المكرّسة كلجنةٍ تحظى بدرجةٍ عاليةٍ من الثقة والتقدير من الجمهور الفلسطيني.
وبهذا المعنى، ووفق الضوابط التي تعمل في إطارها لجنة الانتخابات، ووفق المحددات القانونية لمهامها فقد سجلت هذه الانتخابات نجاحاً، بل ونجاحاً مميزاً، أيضاً.
وكان لهذه الانتخابات أن تحمل من المعاني والدلالات لو أنها جرت في قطاع غزة كما جرت حتى الآن في الضفة.
وكان لهذه الانتخابات أن تكون انعكاساً قوياً للديمقراطية الفلسطينية لو أنها أتت في سياق انتخابات للمجلس الوطني، وبما يغطي كامل خارطة المؤسسات والنقابات والمنظمات والجمعيات العاملة في الحقل الاجتماعي الشامل.
وإن كان لهذه الانتخابات من أهمية على هذا الصعيد تحديداً فهي أن العودة إلى البحث الجاد من قبل الكل الوطني بات ضرورياً وملحّاً وحيوياً، عن تذليل كل العقبات أمام إجرائها، لما لها من أهمية حاسمة في إعادة الّلحمة إلى الصف الوطني، والنسيج الاجتماعي، وما ينطوي عليه هذان الأمران في مواجهة التحديات التي تحولت في الآونة الأخيرة إلى تحديات وجودية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
في الميزان الديمقراطي العام فإن تنوّع القوائم وتعددها، وحتى اعتبارات تشكيلها، و"الاختراقات" المتبادلة فيما بينها، تعتبر كلها مؤشرات صحية في الجوهر، وهي تعكس في النهاية حالة التعددية السياسية والاجتماعية، وكذلك تعددية في الاهتمامات، وفي منظومة الأولويات لدى مختلف شرائح المجتمع، تماماً كما تعكس هذه الحالة الصحية المناخ العام من التوق المجتمعي للتعبير عن حرية الاختيار من طيفٍ واسعٍ من الخيارات.
والدرس الأساس هنا هو أن كل ممارسة للديمقراطية ستفضي إلى المزيد منها، وإلى المزيد من الثقافة الديمقراطية ومن الثقة بها كأساسٍ شرعيٍّ للحق بتداول السلطات في كل المجالات، وكقاعدة شرعية للتغيير.
وهنا، وهنا بالذات نحن أمام ظاهرة تبعث على أعلى درجات القلق والتي تتمثل في (منع) إجراء هذه الانتخابات في قطاع غزة، والمشاركة فيها في الضفة؟!
وهنا نحن أمام ليس مجرد تناقض صارخ فقط، وإنما نحن أمام أخطار تتهرب منها، أو تحاول التقليل من أهميتها، أو حتى التستر عليها الفصائل السياسية، وخصوصاً اليسارية منها.
إذ كيف يفهم لمن يحجر على الديمقراطية ويحتجزها ويمنعها في القطاع أن يشارك في الضفة، بل ويحظى بتحالفات مع بعض أطراف اليسار في نفس الوقت لا يسمح لبعض هذا اليسار أو من هم على شاكلة تفكير هذا اليسار بمجرد الحق بوجود الانتخابات؟
ما هذه السوريالية السياسية التي وصلنا إليها، وإلى متى يتم استغفال الناس بهذه الطريقة، وإلى هذا الحد؟
هل بتنا نقبل هدف حركة " حماس " ونتستّر عليه بأن قطاع غزة (خارج الحسابات)، والصراع على الضفة فقط، لأن القطاع حُسِمَ أمره، وانتهى وبات خارج نطاق أي تفكير يكون مدرجاً لأي تداول للسلطة فيه؟
أم أن حركة حماس تعرف حق المعرفة أن فرصتها للفوز في الضفة أعلى من فرصتها في القطاع، بعد خمسة عشر عاماً من الإفقار والتجويع والفساد والإفساد، وأن إجراء مثل هذه الانتخابات التي جرت أول من أمس، في الضفة سيؤدي إلى انكشافها الكامل في القطاع؟!
وهل أصبحنا أمام معادلة سياسية مفادها أن إجراء الانتخابات أو المشاركة فيها والسماح بها بات بتوفر وتأمين المصالح الحزبية للفوز بها سلفاً؟
في الحالتين هنا، أي اعتبار القطاع خارج الحسابات، أو الضمان المسبق "للنجاح" هو سقوط كبير في الدرس الأول من دروس المبادئ الديمقراطية.
وهنا، أيضاً، فإن حركة فتح التي حققت نجاحات كبيرة في هذه الانتخابات، وأثبتت أنها ما زالت عصيّة على التفتيت، وما زالت قواعدها الشعبية الواسعة والعريضة تراهن على دورها وتثق بها باتت مطالبة بالكف عن التردد بإجراء كل الانتخابات الوطنية، خصوصاً وأن هناك ما يكفي من المخارج حول مدينة القدس ، وبما يجعلها مخارج وطنية ومشرّفة، أيضاً، لأن التردد حول الديمقراطية في المجتمع الفلسطيني سيؤدي إلى مخاطر أكبر وأعلى بكثير من "المخاطر" التي قد تنجم عن بعض المثالب التي تتعلّق بالمخارج الوطنية للانتخابات في العاصمة المحتلة.
وعلى "فتح" أن تدرك أن ثمة فارقاً كبيراً بين نظرة الجمهور الفلسطيني للسلطة وبين نظرة هذا الجمهور لحركة "فتح"، بصرف النظر عن كل الضرر الذي لحق بالحركة جرّاء الاندماج المتسرّع لكادر "فتح" في أجهزة السلطة ومؤسساتها على حساب الدور الذي يفترض أن يكون نسبياً مستقلاً عن دور السلطة، وبما يحافظ على دور الحركة في أوساط الجمهور.
هذا إضافةً إلى أن حركة "فتح" باتت مطالبة بإدراك واستيعاب وتفهّم أن أمراض السلطة، أي سلطة، وأمراض السلطة في الضفة وفي غزة إنما تأكل موضوعياً من اللحم الحيّ للحزب السياسي الذي يسيطر ويُهيمن على هذه السلطة في الظروف الفلسطينية الخاصة والتي هي حالة من المراوحة بين رهانات خاسرة وارتهانات خطيرة على كامل المشروع والأهداف والحقوق الوطنية.
الديمقراطية ليست حلاً سحرياً لأي شيء، وهي بكل تأكيد ليست حلّاً لأي مسألة من مسائل وقضايا وأخطار وتحديات الواقع الفلسطيني، ولكنها مع ذلك الطريق الأسلم، والآلية الأهم للتغيير والتطوير والحفاظ على تماسك المجتمع والتصدي لكل محاولات بعثرة الهوية الوطنية وتفتيت الشعب.
الحالة التي نراها، اليوم، هي انعكاس لجريمة الانقسام، والجريمة بالتأخر والتأخير في إنهاء هذا الانقسام، وأثر ذلك على مدى قدرة الشعب الفلسطيني على مجابهة المشروع الصهيوني، ما يعني أن تفتيت وحدة الشعب الفلسطيني هو مخطط متواصل منذ بداية المشروع الصهيوني في فلسطين وحتى يومنا هذا، وذلك لأن المشروع الصهيوني يعرف ماذا تعني وحدة الشعب الفلسطيني من إجهاض مشروعه التوسعي والعدواني والعنصري.
علينا أن ندرك بعمق أن وحدة الشعب هي الحلّ السحري الذي نملكه، ووحدة الشعب تعني كل الشعب الفلسطيني وليس الضفة والقطاع.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد