انعقاد قمة زعماء الاتحاد الأوروبي غير الرسمية بقصر فرساي التاريخي بالقرب من باريس، كان يهدف بشكلٍ أساسي إلى توفير الظروف لوقف إطلاق النار في أوكرانيا، غير أنّ هذا الهدف المعلن للقمة تلاشى تقريباً عن مداولات الزعماء وبالكاد ظهر في البيان الختامي للقمة، وفي الغالب، فإن انعقادها في قصر فرساي أدّى إلى استرجاع معان تتجاوز الرمزية باعتبار أنّ هذا القصر شهد اتفاقيات أدت إلى نهاية الحرب العالمية الأولى واستسلام ألمانيا وتقاسم أوروبا وروسيا الغنائم ومعارضة أميركا للاتفاقية بعد رفضها القاطع الانضمام إلى منظمة عصبة الأمم، وفي حين أنّ هذا الانعقاد يعبر من وجهة نظر الكثير من المؤرخين والباحثين والمحللين عن يقظة أوروبية جديدة من شأنها مراجعة الوضع الأوروبي الراهن لجهة وقوع هذه الدول في معظمها رهينة للغاز والنفط والفحم الروسي فإننا نرى أنّ هذه اليقظة تم التعبير عنها متجاوزة أبعادها الاقتصادية إلى خريطة سياسية عالمية راهنة لا تلعب فيها أوروبا دوراً ريادياً بعد أن وجدت القارة العجوز نفسها بعيدة من أن تكون أو تشكّل قطباً فاعلاً أساسياً من أقطاب السياسة الدولية مثل روسيا والولايات المتحدة والصين كأقطاب فاعلين في السياسة والاقتصاد على الصعيد الدولي.
استيقظت أوروبا في فرساي لتجد نفسها ميداناً للحرب، وموطناً للمهاجرين الأوكرانيين، والأكثر عرضة للنتائج العكسية للعقوبات المتخذة ضد روسيا في حين أنها الممول الأساسي لدعم أوكرانيا عسكرياً واقتصادياً ومع ذلك فإنّ القرارات المتعلقة بهذه الحرب ليس بيدها بينما تحت سطوة أقطاب أخرى أكثر أهمية وأقدر على الحسم في اتخاذ مثل هذه القرارات ذات الطابع الاستراتيجي، وبين أروقة هذا القصر الفخم المفعم بتاريخ كانت أوروبا هي التي ترسم معالمه ربما فرض على المستشار الألماني شولتس والرئيس الفرنسي ماكرون دعم الزعيم الصيني شي
جين بينغ أثناء قمة معهم عبر الفيديو قبل أربعة أيام من عقد قمة فرساي بلديهما في تعزيز إطار أمني أوروبي متوازن وفعّال ومستدام يحقق مصالح أوروبا وأمنها الدائم ويقوم على أساس التمسّك باستقلالها الاستراتيجي، دعوة ودعم الزعيم الصيني على الغالب كان لهما التأثير في قاعات قصر فرساي الذي كان الأكثر تعبيراً عن الدور الأوروبي في رسم السياسات في الخريطة الدولية الناتجة عن الحرب العالمية الأولى، وباختصار فإنّ هذه الدعوة من شأنها أن تراكم على دعوات سابقة كان الحديث يدور حول ضرورة اعتماد أوروبا على نفسها في الدفاع عنها بمنأى عن الدور الأميركي وحلف «الناتو»، وكانت الدعوات خجولة إلى حدٍ ما لكن من المنتظر أنّ تتعزز هذه الفكرة واتخاذ خطوات جدية بشأنها بعد قمة فرساي.
ونعتقد أنّ دعم قمة فرساي لأوكرانيا من خلال تقديم 500 مليون يورو تضاف إلى مثلها كانت قد قررته أوروبا في السابق يتجاوز مسألة الدعم المباشر إلى مضامين أكثر أهمية، فهي المرة الأولى التي يقوم بها الاتحاد الأوروبي بدعم دولة من خارجه خاصة في نطاق الدعم العسكري المباشر والمعلن، وبمعنى آخر يمكن اعتبار هذا الأمر آلية أولية للتحول التدريجي من الاقتصار على الدور الاقتصادي إلى الاتحاد إلى دور عسكري يمهّد الطريق كخطوة أساسية نحو تأسيس الإطار الأمني المستقل الذي سبق الحديث عنه دون الفكاك من «الأطلسي» ودون الحديث المباشر عن التوقف عن الرعاية الأمنية الأميركية على الأقل في بدايات تنفيذ هذه الفكرة، مع التذكير في هذا السياق، أنه وبتأثير الأزمة الأوكرانية، أعلنت عدة دول أوروبية وعلى رأسها ألمانيا زيادة ميزانية الاستثمارات العسكرية في ميزانية العام الجاري 2022. فألمانيا زادت هذه الميزانية بــ100 مليون يورو بينما دول أوروبية أخرى أخذت هذا المنحى الذي يشير إلى بدايات شق الطريق نحو استقلال أوروبا في الميدان العسكري والأمن عن كل من «الناتو» والولايات المتحدة.
وإذ منحت أوروبا نفسها خمس سنوات لتعميق استقلالها الاقتصادي من خلال خطة للاستغناء عن مصادر الطاقة الروسية فإننا نعتقد أن وضع هذه الخطة موضع التنفيذ يواجه العديد من الصعوبات. فقد سبق أن قررت الدول الأوروبية قبل أكثر من عقد من الزمن على سبيل المثال
الاستغناء عن الفحم في الصناعة وإمدادات الكهرباء لديها فرغم أنه أقل تكلفة فإنه مهدد مباشر للبيئة، مع ذلك فشلت هذه الدول تقريباً في الاستغناء عن الفحم رغم الخطط التي وضعتها بهذا الشأن ورغم دعوات مؤتمرات البيئة الدولية وتعهدات الدول الأوربية بالالتزام بهذا الاستغناء، في حين أنّ الاعتماد على واردات بديلة من الشرق الأوسط مثلاً لا يمكن له أن يعوّض مصادر الطاقة الروسية لأسباب سياسية ولوجستية ستشكّل عائقاً أمام انفكاك أوروبا عن مصادر الطاقة الروسية خلال خمس سنوات.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية