بعد مرور أسبوعين على قيام القوات الروسية باجتياح أراضي دولة أوكرانيا واندلاع الحرب فيها، تبدو الصورة غير واضحة بشأن مستقبل هذا البلد ومستقبل العلاقات الدولية بناء على هذه الحرب التي تتجاوز نطاق أوكرانيا وخلافاتها مع روسيا، والتي لا تتعلق فقط بالأقلية الروسية الموجودة في أوكرانيا، بل بالأمن القومي الروسي عقب تسليح الغرب لأوكرانيا ونوايا ضمها لحلف شمال الأطلسي "الناتو". فالغرب بقيادة الولايات المتحدة يرى في الحرب فرصة لتصفية الحساب مع روسيا وإضعافها بصورة كبيرة بإدخالها في حرب استنزاف طويلة، ومحاولة تدمير اقتصادها بعقوبات شاملة غير مسبوقة. والصراع الحقيقي هو بين الولايات المتحدة والصين. ولهذا تحتل الحرب في أوكرانيا أهمية استثنائية في محاولات فرض هيمنة الغرب كجهة واحدة تتحكم بالعالم، وبالمقابل محاولات الطرف المقابل كسر معادلة القوة الوحيدة المهيمنة.
روسيا تقول: إن على الولايات المتحدة أن تتعود على انتهاء أحادية القطب في العالم، وأن تعود إلى مبدأ التعايش السلمي على غرار فترة الحرب الباردة. وهي تراهن على انتصارها في الحرب بإخضاع أوكرانيا وقبولها الشروط الروسية، وبالذات اعترافها بالقرم كمنطقة روسية والاعتراف باستقلال جمهوريتَي دونيتسك ولوغانسك في دونباس شرق أوكرانيا، والامتناع عن الانضمام لحلف "الناتو"، وتجريدها من الأسلحة الهجومية الفتاكة. ويبدو أن روسيا تعتمد سياسة الحصار والقصف المتواصل تمهيداً للسيطرة على المدن الرئيسة، خاصة العاصمة كييف، ما يعني هزيمة أوكرانيا وربما استسلامها. وبعدها ستختلف المعادلات الدولية، حتى موضوع الحصار قد يشهد تخفيفاً في حال التوصل إلى اتفاق مع الأوكرانيين.
أميركا فشلت في فرض حصار على إمدادات الغاز والنفط الروسيين إلى أوروبا ومناطق أخرى في العالم، وقد تلجأ من جانب واحد إلى وقف استيراد النفط من روسيا، وعملياً هذا لا يغير كثيراً من الواقع؛ لأن ما تحصل عليه الولايات المتحدة من النفط الروسي هو 209,000 برميل يومياً، بالإضافة إلى 500,000 برميل من مشتقات النفط، بينما تستورد أوروبا يومياً 6 مليون برميل وهو 30% من احتياجاتها، و40% من غازها من روسيا. فالدول الأوروبية، وفي مقدمتها ألمانيا، ترفض فرض حظر على استيراد النفط والغاز من روسيا. بل إن روسيا هي التي تهدد بوقف تزويد أوروبا بالغاز عبر خط ستريم (1). وكل محاولات واشنطن لاستبدال النفط والغاز الروسيين ببدائل عربية وإيرانية، وحتى من فنزويلا التي تتعرض لعقوبات أسوة بإيران، لم تفلح. ويقدر الأوروبيون أنهم لو أرادوا الاستعاضة عن النفط والغاز الروسيين فهذا سيأخذ وقتاً طويلاً، بعضهم يقول: إنه قد يستغرق 30 شهراً على الأقل.
الفشل الأكبر للولايات المتحدة كان مع الصين، التي بدت في الأيام الأولى للحرب حذرة ومتحفظة في التصريحات، وحثت على الحل السلمي والتفاوض وحلّ النزاع. ولكن بكين بدأت باتخاذ مواقف أكثر حدة تجاه واشنطن والغرب، وذلك بعد أن هددت أميركا بمعاقبة الصين إذا رفضت الانضمام للعقوبات. وقد اتهمت الخارجية الصينية، أمس، سياسة "الناتو" في التوسع شرقاً بأنها لعبت دوراً في اندلاع الأزمة في أوكرانيا. وذهبت بعيداً بالتنديد بسعي واشنطن لاستنساخ تجربة "الناتو" في بحر الصين، واعتبرته تقويضاً للسلام. ودعت الصين الولايات المتحدة وأوروبا و"الناتو" إلى إجراء حوار متكافئ مع روسيا يراعي مخاوفها الأمنية. كما طالبت واشنطن بتوضيح أنشطتها البيولوجية العسكرية بما فيها الموجودة في أوكرانيا.
في الواقع، وعلى الرغم من كل التشكيكات والحرب النفسية التي يشنها الغرب ضد روسيا، مرة بالاستهتار بالجيش الروسي "غير المستعد والبطيء"، ومرة بالإشادة بقوة الجيش الأوكراني و"مقاومته الباسلة التي أوقعت خسائر كبيرة في الجيش الروسي" كما يزعمون، يبدو أن أوكرانيا على وشك القبول بمطالب روسيا أو على الأقل الاستعداد لتسوية بشأنها. وقد صرح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أمس، أنه فقد الاهتمام بالانضمام لحلف "الناتو"، ومستعد لحل وسط بخصوص إقليمَي دونباس والقرم. وبطبيعة الحال ستتضح مواقف أوكرانيا أكثر مع تقدم العملية العسكرية الروسية، ومع السيطرة على المزيد من المدن وإحكام الحصار حولها، وبعد أن تفشل جهود الغرب في تغيير المعادلات على الأرض، على الرغم من حجم الدعم الهائل المقدم لأوكرانيا للاستمرار في الحرب والتعرض للمزيد من الدمار.
نتيجة الحرب في أوكرانيا، خاصة إمكانية أن تنتهي بسرعة باتفاق بين روسيا وأوكرانيا، أو أن تتحول إلى صراع مفتوح قد يتطور إلى حرب عالمية ثالثة، أو حتى حرب استنزاف طويلة الأمد، ستحدد مصير العلاقات الدولية وبناء التحالفات على مستوى العالم. فانتصار روسيا، حتى مع استمرار العقوبات لفترة ما، سيؤدي إلى تطور التحالف المناقض للغرب، والذي يضم الصين ودولاً أخرى عديدة متضررة من الهيمنة الغربية. وقد يقود إلى استيلاء الصين على تايوان وتعزيز سيطرتها النهائية على بحر الصين. وهذا سيكون بمثابة تحول هائل في موازين القوى الدولية. كما أن الانتصار الروسي سيعيد التناقضات بين دول الغرب إلى ما كانت عليه قبل الحرب، وربما يعمقها أكثر من السابق. وقد يؤدي إلى نشوء عالم جديد مختلف متوازن أكثر، وفيه مستوى أكبر من العدالة والموضوعية يؤثر على صراعات أخرى بما فيها الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية