تتعدّد روايات الأنظمة العربية للتطبيع مع "إسرائيل" في إطار التبرير السياسي لإقدامها على التطبيع مع عدو الأمة المركزي. ومن هذه الروايات التبريرية، أنَّ التطبيع: قرار سيادي، وينسجم مع المبادرة العربية للسلام، ويخدم القضية الفلسطينية، وأسبقية الفلسطينيين في السلام والتطبيع... وجملة من المبرّرات الأخرى، لها علاقة بالتعايش السلمي، والعداء للسامية، والواقعية السياسية... وهذا التبرير السياسي يشبه التبرير النفسي، كحيلة دفاعية لاشعورية، يلجأ إليها الفرد عندما يقوم بسلوك خاطئ، أو يتخذ موقفاً مُعِيباً، يصعب تفسيره وتبريره لنفسه وللآخرين، ولاسيّما إذا كان السلوك والموقف هذان يتعلّقان بفلسطين، قضية الأمة المركزية.
تبرير التطبيع بأنَّه قرار سيادي يخص الدولة ويحقق مصلحتها، ولا يحق لأحد التدخل فيه، يحتاج إلى بحث وتفنيد، فالقرار السيادي يصدر عن السلطة العُليا في الدولة - فرداً أو جماعة - ويكون نابعاً من إرادتَيِ الشعب والأُمّة، ومُعبّراً عن مزاجهما، ومُنسجماً مع مصالحهما، ومُحقّقاً لأهدافهما... والواضح، من قرارات التطبيع العربية، أنها على الرّغم من صدورها عن السلطة العُليا في الدول المُطبّعة، فإنها جاءت استجابةً لضغوط أميركية متواصلة، بالترهيب والترغيب، ضد الأنظمة العربية ونُخَبها الحاكمة، وبخلاف إرادة الشعوب العربية، وضد مصالحها القومية الكبرى، وتُناقِض أهدافها الوطنية... وأنَّه لا يُعبّر إلاّ عن مصالح نُخَب حاكمة معزولة عن شعوبها، ومرتبطة بالاستعمار الصهيوأميركي.
تبرير التطبيع بأنَّه ينسجم مع المبادرة العربية للسلام، يحتاج إلى بحث وتفنيد، لأنَّه في الواقع يناقض المبادرة. فالمبادرة العربية للسلام، والمُقدَّمة في مؤتمر قمة بيروت عام 2002م، تقوم على مبدأ "الأرض في مقابل السلام والتطبيع"، وتتكوّن من مرحلتين: الأولى تسبق الثانية زمنياً. فالانسحاب من الأرض المُحتلة عام 1967م، بحسب قرار مجلس الأمن (242)، وحل مشكلة اللاجئين، بحسب قرار مجلس الأمن (194)، وإقامة الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع، كلها مرحلة واحدة إذا نفّذتها "إسرائيل" – بحسب المبادرة – يقوم العرب بالمرحلة الثانية، وهي: عقد اتفاقيات سلام وتطبيع معها. أمّا ما حدث فهو أنَّ تلك الأنظمة قفزت إلى المرحلة الثانية مباشرة (السلام والتطبيع) من دون تحقيق المرحلة الأولى (عودة الأرض)، وهذا يناقض المبادرة العربية للسلام، شكلاً ومضموناً، ولا ينسجم معها، كما زعم فلاسفة التطبيع.
تبرير التطبيع بأنَّه يُفيد القضية الفلسطينية يحتاج إلى بحث وتفنيد، فالعكس هو الصحيح، فهو يضرُّ بالقضية الفلسطينية. فالفرضية التي تقول إنَّ إقامة علاقات بـ"إسرائيل" تُعطي هامشاً دبلوماسياً للتأثير فيها لمصلحة القضية الفلسطينية، وإرغامها على قبول ما يُسَمى الشرعية الدولية، ثبت بطلانها، نظرياً وعملياً. فنظرياً، التطبيع هدف أميركي وهدف إسرائيلي، من أجل شرعنة وجود "دولة" الاحتلال، ودمجها في المنطقتين العربية والإسلامية، ودعم أمنها واستقرارها وازدهارها. وعملياً، لم تُساهم اتفاقيات السلام والتطبيع في إرجاع أيّ حق فلسطيني. وما حدث هو تمادي "دولة" الاحتلال في انتهاكها الحقوق الوطنية الفلسطينية، وتغوُّلها في الدم العربي والدم الفلسطيني. فمنذ "اتفاقية كامب ديفيد" مع مصر عام 1978م، و"اتفاقية وادي عربة" مع الأردن عام 1994م، و"اتفاقيات أبراهام" للتطبيع، ازدادت "إسرائيل" غطرسة وإرهاباً ضد الحقوق الفلسطينية والدم الفلسطيني.
تبرير التطبيع بأنَّ الفلسطينيين عقدوا اتفاقية سلام وتطبيع مع الاحتلال، والقول: "إننا – المطبّعين – لسنا مَلَكِيّين أكثر من الملك، ولسنا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم": على الرغم من أنَّ ذلك يحمل جزءاً من الحقيقة، فإنّه في حاجة إلى بحث ودراسة. فـ"اتفاقية أوسلو" ألحقت ضرراً كبيراً بالقضية الفلسطينية، وقدَّمت نموذجاً سيئاً للعرب في التعامل مع "دولة" الاحتلال، وفتحت الباب لها لغزو العواصم العربية... لكن هذا لا ينبغي له أن يكون مبرِّراً للهرولة نحو السلام والتطبيع والتحالف مع "دولة" الاحتلال، لأنَّ القضية الفلسطينية قضية عربية وإسلامية، وليست مجرد قضية وطنية. ففلسطين أرض عربية إسلامية، وليست مجرد قضية وطنية. وفيها القدس والمسجد الأقصى، أُولى القبلتين وثالث الحرمين، وهو مُلك لكل العرب والمسلمين. ومسؤولية تحرير فلسطين والقدس والأقصى مسؤولية قومية ودينية، وليست وطنية فلسطينية فقط، بالإضافة إلى أنَّ مَن عقد "اتفاقية أوسلو" يمثّل فريقاً من الفلسطينيين، احتكر تمثيل الشعب الفلسطيني، بخلاف إرادة الشعب الفلسطيني المتمسّك بكل حقوقه الوطنية.
تبرير التطبيع بربطه بسياسة التعايش السلمي مع يهود الدول العربية مُغالطة تخلط بين التطبيع، المرفوض مع "دولة" احتلال غير شرعية، ومبدأ التعايش السلمي داخل المجتمع الواحد، في كل اختلافاته الدينية وغيرها، بمن فيهم اليهود، كأصحاب ديانة سماوية مُعترَف بها في الدول العربية. وتبرير التطبيع كنوع من التحالف ضد ظاهرة "معاداة السامية"، باعتبار رفض التطبيع معاداة للسامية، مُغالطة تخلط بين مفهوم "معاداة السامية" التي تشمل العداء لشعوب متعدّدة، في مقدمتهم العرب، وبين توظيف المفهوم إسرائيلياً في وصم كل من ينتقد الحركة الصهيونية العنصرية والسياسة الإسرائيلية الإرهابية بمعاداة السامية. وتبرير التطبيع بالرغبة في المحافظة على الأمن والاستقرار والازدهار في المنطقة، يناقض الهدف الذي أُقيمت "إسرائيل" من أجل تحقيقه كرأس حربة للمشروع الاستعماري الغربي، وأهمها إبقاء حالة الحرب والاضطراب والتخلّف في المنطقتين العربية والإسلامية. وتبرير التطبيع بأنَّه نوع من الواقعية السياسية فيه مغالطة تخلط بين الواقعية، بمعنى فهم الواقع السيّئ من أجل تغييره، والاستسلام للواقع السيّئ وتثبيته.
بؤس الرواية العربية للتطبيع نابعة من بؤس الأنظمة العربية الحاكمة المُطبِّعة مع الكيان الصهيوني المُحتل لفلسطين، كأنها وجه آخر للكيان الصهيوني، وامتداد آخر للمشروع الاستعماري الغربي ضد الأمتين العربية والإسلامية. ولو أرادت هذه الأنظمة ونُخَبها الحاكمة الخروج من حالة البؤس، لكان قرارها السيادي الحقيقي نابعاً من إرادة شعوبها وأمتها الرافضة لوجود الكيان الصهيوني، فضلاً عن التطبيع معه، ولكانت كل مواقفها وقراراتها تسير في اتجاه خدمة قضية الأمة المركزية – فلسطين – وتساهم في مشروع تحريرها، أو على الأقل أن تكون مواقفها وقراراتها لا تسير في اتجاه خدمة عدو الأمة المركزي، "إسرائيل"، ولا تُساهم في تعطيل مشروع تحرير فلسطين، فلا تتخذ المقاومة ومحورها عدوَّين، ولا تُقيم علاقات سلام وتطبيع وتحالف بمحور الشر الصهيوأميركي.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية