لم أكن أتوقع أن لدينا مشروعاً عمرانياً بهذه الضخامة، وهذه الرؤية وهذه الارادة على الحلم.
فقبل كل شيء فإن بناء أي تجمع عمراني بمقاييس اصغر من مدينة او ضاحية على الأرض الفلسطينية يعتبر إنجازاً في مواجهة الاستيطان، بل ويعتبر مكسباً في مواجهة ما هو قادم من مخططات إسرائيلية لالتهام كل ما يمكن أن تصل اليه أيديها او بالأحرى جرافاتها ودباباتها.
وعندما أُنجزت المراحل الأولى من ضاحية الريحان أصبحنا ندرك ان القطاع العام يمكنه ان ينجز مشاريع كبيرة وجادة في قطاعات مختلفة بما فيها الإسكان.
صحيح ان الإسكانات التي يتم إنجازها حول مدينة رام الله ما زالت «أعلى» من حيث الأسعار من الإسكانات الشعبية، لكن ما يميزها عموماً هو انها إسكانات «لائقة» بالمقارنة مع السعر، إضافة إلى تحضير بنية تحتية لائقة أيضاً.
في مطلق الأحوال فإن القطاع العام وعلى أسس اقتصادية قدم من خلال ضاحية الريحان مثالاً على أننا نستطيع.
أما في مدينة روابي فإن القطاع الخاص يقدم مثالاً مختلفاً بالاتجاه الإيجابي طبعاً.
في العادة فإن قيام أو إنشاء المدن الجديدة مسألة تكون متعذرة بدون تخطيط الدولة والمساهمة الفاعلة فيها، وغالباً ما يعهد الى القطاع الخاص، المحلي او حتى القادم من الخارج بتنفيذ المقاولات في المجالات المختلفة. كما يمكن للقطاع الخاص أن يكون شريكاً مع الدولة او القطاع العام في بعض الأحيان، أما ان يقوم القطاع الخاص بتولي كامل العملية ـ عملية بناء مدينة جديدة ـ فإن المسألة هنا لا بد وأن تثير الإعجاب وهي تستحق كل الاحترام والتقدير، وهذه المسألة بالذات هي ميزة مثيرة ومفرحة وتبعث برسالة قوية بأننا، ليس مجرد أننا نستطيع، وإنما تجاوزنا فعلاً مرحلة «شرف المحاولة» وعبرنا الى ضفة القدرة والسيطرة والإنجاز.
عندما ينبري القطاع الخاص ببناء مدينة من المخطط لها أن تستوعب ما يزيد على أربعين ألف فلسطينية وفلسطيني، وعندما يعرف هذا القطاع الخاص ان هامش الربح قد تقلص إلى الحدود الدنيا بحكم ان هذا الربح لن يبدأ قبل عدة سنوات من الآن وقبل تسويق عدة آلاف من الشقق في اطار هذه السنوات، وعندما يتكلف هذا القطاع الخاص بكامل البنية التحتية للمدينة والتي هي بالأصل وفي العادة وفي الغالب من مهمات الدولة، ومن الطبيعي ان تكون المسؤولة عن توفيرها، وعندما ـ فوق كل ذلك ـ يصر القطاع الخاص على انجاز مدينة بمواصفات عصرية محملة بأبعاد ورؤى ثقافية واجتماعية عالية القيمة والجودة، منفتحة ومتنورة وتنوعية ... عندما يعرف القطاع الخاص كل ذلك ويصر على الإنجاز بهذه المواصفات وفي حدود هوامش الربح المؤجلة فإن علينا هنا أن نرفع القبّعة.
نحن في الواقع أمام مدينة أقرب إلى الرقمية، مدينة ذكية مجبولة بالحداثة، إنها نافذة مشرعة على المستقبل، وفيها رمزيات قوية من هذا المستقبل.
في المدينة مسرح مفتوح هو الأكبر في الشرق الأوسط وواحد من أكبر المسارح في العالم، روماني الهيئة ويوناني المظهر تستحضر فيه روابي المسرح الروماني في عمان والجنوبي في جرش وفي بصرى وفي أماكن مختلفة من بلاد الشرق العربي الذي أقامت فيه مطولاً الحضارة الرومانية واليونانية قبل الحضارة الإسلامية.
وفي المدينة أيضاً مشروع ضخم لمركز ثقافي هو من حيث الكلفة مشروع دولة، وفي المدينة أيضاً بنية كاملة للتعليم وبنية متكاملة للتسوق والترفيه ولقضاء وقت ممتع ومفيد، إضافة إلى دور العبادة من مسجد وكنيسة.
هذا البعد الاجتماعي والثقافي للمدينة من حيث القيمة والمغزى، وهذه الرؤية التي تظهر في المشهد الخلفي للمدينة، هذه الفلسفة في رؤية المدينة الفلسطينية الحديثة هو الذي يميزها.
انها على ما يبدو ـ مدينة للطبقة الوسطى ـ كما قال لي أحد الأصدقاء المؤمنين بفلسفة المدينة. مدينة لفئات من الفنيين والخبراء الناشئين، ومن فئات تبحث عن العيش الهادئ والنظيف والمتطور في أن معاً.
بطبيعة الحال يمكن ان تكون المسافة بين روابي ومدينة رام الله احد «معوقات» التسويق المتسارع للمشروع، ذلك لان مفهوم المسافة في الثقافة الفلسطينية يختلف عنه في ثقافة البلدان الواسعة او الممتدة من حيث المساحة والمكتظة من حيث عدد السكان ومن حيث كثرة المنشآت والورش والمصانع والمؤسسات.
في بعض البلدان الغربية وربما أكثريتها تعتبر انت محظوظاً للغاية إذا استغرقت مجرد نصف ساعة للوصول صباحاً إلى عملك، اما عندنا فإن هذا الوقت ما زال كثيرا او بالأحرى طويلاً في الثقافة العامة.
صحيح أن هذا المفهوم آخذ بالتغير لان لدينا آلاف الموظفين الذين يقضون وقتاً اطول للوصول الى رام الله صباحاً والعودة منها، وصحيح اننا أصبحنا «نعاني» من أزمات سير داخلية خانقة أحياناً في معظم المدن الفلسطينية الكبيرة مثل نابلس والخليل، ولكن عوائق التواصل التي يضعها الاحتلال أمام حركة وتنقل الفلسطينيين تزيد من «تعقيدات» النظرة الى مفهوم المسافة.
مع ذلك كله فإن هجرة مراكز المدينة نحو الضواحي آخذة بالتنامي وهذا مؤشر جيد عموما.
نتذكر طبعاً ويجب ان نتذكر ان هجرة العمران الى التلال تحتوي من بين ما تحتويه رداً على دعوات شارون لاحتلال واستيطان تلك التلال.
التمدد العمراني على التلال احد اهم الأشكال المتاحة لمواجهة الاستيطان وحماية الأرض وانتزاعها من بين مخالب الاحتلال.
شخصياً أشعر بالزهو عندما أرى الضواحي الجديدة وهي تتسلق إلى تلك التلال، لان الصراع على الأرض هو صراع البقاء والصمود، وأشعر ان احد اهم المعايير في رؤية المدن والضواحي الجديدة هو معيار التشبث بهذه الأرض والصراع على كل سنتيمتر منها، وهذا هو الوجه الآخر وربما الأهم في المعادلة، على الرغم من أن هذه الضواحي والمدن تعبر بنا الى المستقبل عبر بوابة الحداثة والتنوّر، إضافة إلى بوابة المواجهة مع الاحتلال وفي ملف الاستيطان تحديداً.
وبالمناسبة فإن كل قيمة مهما كانت لا تعبر بنا إلى المستقبل هي قيمة مشكوك بأهميتها مهما انطوت عليه من مظاهر.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية